من الآن ينبغي إعادة التفكير في اللاممكن المعرفي ( العلمانية، الديمقراطية والمواطنة الكاملة) كي نصل إلى الممكن التاريخي: دولة عادلة ضمن بيئتها الاجتماعية جوهرها فكرة التحرر. الديمقراطية سيرورة ترِد وفق تدافعية تاريخية تكتسح المجتمع ونخبه وقواه المتنوعة، ولا أحد يمتلك القدرة على "تخطيطها" أو "نمذجتها"، بمعنى انها تأتي في سياق التطور - كما حدث بالفعل للديمقراطيات القائمة في عالمنا اليوم - وليس في مقدمته. إطلاق التطور يتطلب وعيا بالتحدي، بالندية الحضارية، وأشك كثيرا أن الديمقراطية قادرة على القيام بهذا الفعل، أو تشكيل ذلك الوعي المطلوب، أي وعي التحدي، لكونه في الجوهر فعلا تحرريا، بينما الديمقراطية - كما تشيع في عالمنا العربي والإسلامي- فعل مطابقة مع الآخر، قيمه، وسوقه، وانماط حياته. إنها تعمل في خط معاكس لخط التحرر بأفقه الحضاري، وهذا جوهر مشكلتنا مع الديمقراطية. تضغط الديمقراطية على مجتمعاتنا بقوة، تربكها بقدر ما تشدها نحو قيم إنسانية نبيلة لكنها متناثرة، فمنذ اللحظة الليبرالية والإستعمارية الأولى - وهما مقترنتان تاريخيا- في مفتتح عصر النهضة (منتصف القرن الثامن عشر للميلاد) جرى تقديم الديمقراطية كوصفة، كنموذج متكامل للحكم ولإدارة المجتمع وابنيته وطوائفه وتوقعاته، وكان ينبغي لمن أراد التقدم - كما قيل حينها- أن يأخذ الديمقراطية جميعها وبحرفيتها دون مجال للإنتقاء والاختيار، حتى وإن تطلب الأمر "تغيير الدم الشرقي في عروقنا" كما قال سلامة موسى ذات مرة. لم تُقدّم الديمقراطية للعقل العربي كقيم وآليات وممارسات نسبية يمكن التفاعل معها من موقع نقدي وحضاري مغاير، لقد طُرحت بوصفها مطلقا معرفيا، وحتمية تاريخية لا راد لها، لذلك دأب أنصار المدنية الغربية على اتهام العديد من رواد النهضة كالأفغاني وعبده وخير الدين التونسي وغيرهم بالتلفيقية لمجرد أنهم دعوا إلى التوفيق بين المدنية الحديثة من جهة وبين الإسلام وقيم المجتمعات العربية من جهة أخرى. لقد كانوا تلفيقيين بنظر أولئك الحداثيين، قبل أن تصبح "التلفيقية" طريقة سائغة لدى مفكري الحداثة أنفسهم حين قرروا - لاسيما بعد هزيمة 1967 كما فعل ياسين الحافظ مثلا- التفريق بين غربٍ وغربْ، غربٌ حضاري نأخذ منه، وغرب امبريالي نرفضه ونقاومه، أو كما دعا رائد الوضعانية المنطقية في الفكر العربي زكي نجيب محمود إلى التوفيق بين التراث العربي والعقل التجريبي الحديث في كتابه " تجديد الفكر العربي"، فاستعادوا بذلك ومن حيث لا يريدون منهجية رواد النهضة الأوائل في الجمع والتوفيق، مدللين على نجاعتها التاريخية في التعاطي مع التحديات المفصلية ذات السمة الحضارية. لا مناص إذن من "تنسيب" الديمقراطية، أي جعلها فكرة نسبية، والتحرر من ضغطها الهائل على حياتنا وعقولنا وطرق تفكيرنا، فذلك كفيل بالعثور على مسارات مغايرة تنضبط بأفق العدالة كقيمة عليا وتنطلق من نشدان هدف التحرر. أليست ثوراتنا العربية المنتكسة راهنا هي "ثورات كرامة" تائقة إلى العدالة منذ لحظتها الأولى قبل أن تجري لبرلتها وإعادة تأويلها ديمقراطيا، بإدعاء أنها تمثل "ثورات ديمقراطية"، ثم تاليا ب"تتويهها" وسط جملة من الإجراءات "الديمقراطية" انتهت بها إلى أحضان نظم مستبدة.