يا إلهي.. مالذي نراه؟ مالذي نسمعه؟ صورة أيقظتهم من سبات، حركت مشاعرهم، ألهبت صدورهم!! نعم، هم كما إعلامنا، إعلام الإثارة، فلا إنارة فيما نشاهده وفيما يطرحون، وإعلام الحدث، فلا تحليل إلا بما يريد أسيادهم، وإعلام التزييف والتضليل، حيث يساعدهم في حربهم الإعلامية على من يريدون، فكما يقال "الهرج نصف القتال"، إعلام المشاكل، فلا حلول لمشاكلنا فيما يناقشون، ولا دواء لأمراضنا فيما يطرحون. لا شك أن صورة الطفل الغريق تدمي القلوب، وتسلب العقول لما وصل إليه حال اللاجئين السوريين، وحال أمتنا العربية من صمت تجاه مآسي أشقائها، وحالة الانقسام في سياساتها، بل وصل الأمر إلى تشظي في بنيتها الاجتماعية... ليست الصورة ما يؤلمني، فقد تألمت قبلها، ولازلت، للوسيلة والأسباب التي جعلت من الأمة كلها تصل إلى هذه الحالة، لم أبكي الطفل واللاجئين، فما أبكاني ويبكيني هو السكوت عن حرب ضروس ضد الدولة السورية باسم الثورة، ليس السكوت فقط، بل الدعم بالمال والسلاح لثوار جلهم مستورد من نفايات العالم وقاذوراته التي تسبب عفن الموت في كل بلد تدخله، فتفتك بكل أشكال الحياة ومقوماتها... صحيح أن النظام السوري جزء من المشكلة، وله أخطاء، والإصلاح السياسي كان واجبا. لكن.. ألم يكن أغلب المنظرين للثورة، إن لم يكن جميعهم، هم ممن لا يمت لسوريا بصلة، إلا صلة العداء لهذا البلد وتراثه؟!! أي ثورة هذه التي تقودها معارضة من تأليف وسيناريو وحوار دول عربية وتركيا وفرنسا وغيرها؟! مزيج من معارضة تقبع في فنادق خمسة نجوم هناك، هذا المزيج من المعارضة لم يتجانس، لأن المعادلة غير صحيحة والمكونات غير معروفة، ولا الهدف واضح، ولم تكن أداة الثورة نقية خالصة، بل كانت خليطا من كل السموم التي لا يمكن أن تكون لقاحا لوباء ولا دواء لداء، بل تفتك بالجسم وتقتله وتدمر كل ما تقابله. لم يصحب شعارات الثورة، وندواتها، ومؤتمراتها (روشتة) توصف الحالة، وكيفية المعالجة، وديناميكية الدواء المقترح، ومدى استجابة الجسم له، ومدى تأثر ذلك بالعوامل الخارجية. لم يحمل إعلام الثورة بروشورا واحدا يضم السوريين بمختلف أطيافهم السياسية والمذهبية والعرقية، بل لقد حجب هذا الإعلام صوت الأداة الفاعلة التي كانت ترفض كل القاذورات والسموم الخارجية، وترى أن تحرير الشعوب يكون من أبنائها ومن داخل أوطانها، لكن إعلامهم كان يعزف على أوتار (الطاغية وقاتل شعبه) دونما كلمات وألحان، فقط يرددون كل ما يقوله أربابهم...
نعم، ليس مقبولا عنف أي حكومة تجاه مواطنيها، ولا مقبولا ظلمها وجبروتها، لكن بالمقابل، ليس مقبولا ولا معقولا على الإطلاق أن يستخدم من ينشدون الحرية والكرامة أبشع صور القتل والتنكيل فيمن يخالفهم، فما الفرق بينهم وبين "الطاغية" الذي ثاروا عليه؟!! طوال أربع سنوات، كنا نقول ما هكذا تصنع الثورات، فالثورة وسيلة وليست غاية، فهي في غايتها إصلاح وتنمية وحرية، والوسيلة لهذه الغاية هي قوى داخلية، نابعة من الشعب وتهتف باسم الشعب، وتحافظ على نسيجه الاجتماعي، وتصون مقومات الدولة، تقدم رؤية لمشروعها، وبرنامجا لﻹصلاح الذي تعتقده، لا أن تكون عبر قوى شعبية قابعة في الخارج أو قوى تدميرية مستوردة من كل أرجاء العالم... في مقال له، يقول الكاتب والإعلامي سامي كليب: "يشرِّح السفير الفرنسي السابق ميشال ريمبو، في كتاب له بعنوان ( عاصفة على الشرق الاوسط الكبير)، الأهداف الأمريكية والإسرائيلية والخليجية والتركية، ولكن أيضا الاسباب النفطية الكامنة وراء الرغبة في تدمير سورية. وفيه تشريح للصراع الدولي بين محورين وللأحلام الاستعمارية وغيرها ناهيك عن حاجة إسرائيل الى تدمير سورية. إليكم مثلا هذه القصة ( ص 397 ) : في كانون الثاني/ يناير 2014 روى وزير الدفاع الايطالي السابق السناتور ماريو مورو أنه كان يقوم بزيارة الى كردستان العراقية عام 2009، فزار ورشة بناء، وسأل عن الغاية من تشييد كل هذه المباني، فكان الجواب : " إنها للاجئي الحرب في سورية " . أي أن ذلك حصل قبل أقل من عامين على بداية الحرب السورية. بمعنى آخر أن التخطيط للحرب بدأ قبل كل ما وصف بالربيع العربي. القصة خطيرة ؟ عال، إليكم أخطر منها : " إن الثورة السورية قد خُطِّطت بمساعدة Syria Democracy Program ( برنامج سورية للديمقراطية ) الذي تموله إحدى المنظمات غير الحكومية المرتبطة بالاستخبارات الأميركية سي آي اي ... وأن العدوان الإمبريالي على سورية قد تمت برمجته منذ صيف عام 2001 ". طوال أربع سنوات، كنا نهتف لحياة السوريين والحفاظ على كيان الدولة، والقبول بالإصلاحات التدريجية، وكانوا يهتفون لقتلهم، لإبادتهم، لتهجيرهم، لتدمير دولتهم التي كانت تحتضنهم ليصبحوا دون بيت أو مأوى... بأعلى صوت كنا نسمع هنا وهناك نهيقا تارة باسم الطائفية المقيتة وتارة باسم الثورة المكذوبة الملعونة المسمومة. لا أكبر كارثة من استبدال وحوش مفترسة وكلاب مسعورة، مسوخ البشر، بالدولة والإنسان! لا أكبر خزي وعار من استبدال الدمار والخراب بالنهضة والعمران! أربع سنوات من القتل والتهجير والدمار لم تكن كافية لتحرك مشاعرهم، أربع سنوات من فتاوى الجهاد والقتال بما ينتهك كل ما يمت للإنسانية بصلة والدين والأخلاق، ثم تحركهم صورة من آلاف الصور، ولا يجرؤون أن يعلنوا ويصرخوا في وجوه أربابهم لحياة هؤلاء!! لنا أن نسأل، ومن حقنا أن نسأل، أين طيبهم وتميمهم والحمدين؟! أين جامعتنا واتحادهم والبيتين؟! أين من دوخونا بما سمي بأصدقاء سوريا، وبدعم الثورة المسمومة، والانتصار للشعب السوري؟! أين من فتح الممرات لدخول كل المسوخ البشرية إلى سوريا وأغلقت أبوابها دون اللاجئين السوريين؟! أين من دفع المليارات لدعم معارضة مهترئة، وتسليح جماعات لا أقول إرهابية بل إرعابية مجرمة؟! ميركل، وإن كانت جزء من المجتمع الدولي الشريك في قتل السوريين، تستقبل آلاف اللاجئين السوريين سنويا، وتتعهد اليوم بأن جميع اللاجئين السوريين الموجودين في بلادها يحق لهم الحصول على اللجوء في ألمانيا”، أي لن تعيد منهم لاجئا واحدا.... اليمن بمشاكلها ومآسيها تستقبل مئات اللاجئين السوريين... يقول الكاتب عبدالباري عطوان "من زار مخيم الزعتري في الأردن في بداية أزمة تدفق المهاجرين السوريين عبر الحدود بحثا عن الأمان من القصف، سمع قصصا مرعبة عن الذئاب الهرمة، المتخمة جيوبها بالمال، التي كانت تحوم حول المخيم مع سماسرة اللحم البشري بحثا عن فتاة قاصر لشرائها، بغرض متعة محرمة بلباس شرعي مزور، وهناك العشرات من التقارير والأفلام الوثائقية التي تؤكد ما نقول. حولوا الصبايا السوريات الى سبايا، بينما حكوماتهم تشارك بالمجازر وتصب الزيت على نار الأزمة، ليس حرصا على الشعب السوري، مثلما تدعي، وإنما للثأر وإشفاء الأحقاد من رئيس سوري وصفهم بأشباه الرجال لتقصيرهم في مواجهة مشاريع الهيمنة الخارجية الذي ثبت بالدليل أنهم طرف رئيسي في تسهيلها وتمريرها، ولتورطهم في مخططات تفتيت هذه الأمة وتقسيمها على أسس طائفية تحت ذرائع متعددة." نعم.. من يتسبب في قتل السوريين في الداخل، لا يمكن أن يساعدهم في الخارج!! ما نريده اليوم هو أن تغلق ممرات دخول الوحوش البشرية إلى سوريا، وأن يتوقف دعم هذه الوحوش بكافة أنواع الأسلحة، وتتحول مع سيول المليارات التي تصرف في قتل وتشريد السوريين إلى دعم حقيقي يمنع عنهم الموت ويساعدهم على الحياة...