لفترة تزيد على التسعة أشهر من البقاء في ساحات التغيير في كل منطقة من مناطق البلاد، كان المعارضون، وفي مقدمتهم الشباب، لنظام الرئيس صالح ولبقائه في الحكم يتمسكون بحقهم في التغيير، التغيير الذي لطالما نادوا به منذ سنوات ولم يتحقق إلا بعد أن فتحت ثورتا تونس ومصر فتحة في جدار النظام العفن، الذي أعاد البلاد سنوات إلى الوراء . لكن يبدو أن اليمن دخل مرحلة حسم القرار لإعلان نهاية حكم صالح . كان بإمكان الرئيس صالح أن ينهي الأزمة منذ وقت مبكر وأن يجنب البلاد هذا العدد الكبير من الضحايا بين قتلى وجرحى ومعاقين، في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء، لو أنه تخلى عن العناد والكبرياء واستمع إلى صوت العقل ونفذ المبادرة الخليجية، إلا أنه ومعه مستشارو السوء، جروا البلاد إلى مزيد من الدمار والخراب تحت حجج مختلفة. سيتذكر اليمنيون أن صالح ضرب بعرض الحائط كل المناشدات الداخلية والخارجية لمعالجة الأزمة بوساطة المبادرة الخليجية التي كانت تشكل طوق نجاة لكافة الأطراف السياسية وله شخصياً، خاصة بعد أن أعطيت له الضمانات القانونية للإفلات من العقاب بسبب الجرائم التي ارتكبتها أجهزته الأمنية في جمعة الكرامة في الثامن عشر من مارس/ آذار في العاصمة صنعاء وقبلها وبعدها مجازر عدة في كل من عدنوتعز وأرحب وغيرها من المناطق . لو أن صالح أدرك حتمية التغيير وأنه سيصل إلى ما وصل إليه اليمن اليوم من دمار في النفوس والأبنية والمال العام، لكان وقع على المبادرة الخليجية التي تبلورت بناء على طلبه وجرى تعديلها أكثر من مرة، لكنه كان يفلت كل مرة من استحقاقاتها ويذهب لافتعال أزمات أخرى كانت تجلب الويل للبلاد والعباد . بداية مرحلة يتوهم من يعتقد أن النظام يمكن أن يرمي بكافة أوراقة ويرفع الراية البيضاء بسهولة، فالأيام المقبلة ستكون حبلى بالتحديات التي لا تقل عن الأيام التي سبقت التوقيع على المبادرة الخليجية، إن لم تكن أصعبها، خاصة لدى شباب ساحات التغيير . ليس من السهل على نظام تمرس على المراوغة والوعود الكاذبة أن يرفع الراية البيضاء بسهولة، لقد تكونت مصالح كبيرة داخل جسم النظام ومن الصعب على رموز هذا النظام، خاصة أصحاب المصلحة في بقائه واستمراره، أن يسلِّموا كل ما تحت أيديهم . ستكون المعركة المقبلة هي التحدي الأصعب في حياة اليمنيين، إلا أن الثابت أن اليمن لن يكون بعد اليوم رهينة لعلي عبدالله صالح يقرر فيه ما يشاء، سيكون على اليمنيين أن يفرحوا بالتخلص من هذه “الجثة الضخمة” التي تكونت على مدى سنوات طويلة، لكنها ترهلت ولم تعد قادرة على تقديم أكثر مما قدمته خلال سنوات الحكم التي استمرت أكثر من 33 عاماً، لقد حكم صالح اليمن على الطريقة التقليدية في حكم العسكر، انقلاب، فتلميع “الرمز القائد” فقمع وتنكيل، ثم قتل وتدمير . عندما شعر صالح بأن الوقت لم يعد في صالح حكمه لجأ إلى أقصر الطرق للحفاظ على الحكم، فخلال الأشهر التسعة الماضية من عمر الثورة، استخدم الرجل الكثير من الأوراق للبقاء في قصره، وجرب كل شيء من التهديد والوعيد والقتل والتغرير وأكثر من الوعود، وبالقدر الذي استغفل فيه مواطنيه طوال سنوات حكمه، استخدم الشيء نفسه مع دول الجوار الإقليمي التي طرحت المبادرة الخليجية كإنقاذ له ولأمواله ولأبنائه وأشقائه وأبنائهم وأقاربه، إلا أنه وصل إلى حائط مجلس الأمن الدولي فلم يستطع تسلّقه . كان الرئيس صالح يراهن على عوامل عدة للتخلص من الثورة وما خلفته من مظاهر لم يكن يتصور يوماً أنه سيواجهها، إلا أنه لم يتمكن من ذلك، لو كان بيد الرئيس صالح القدرة على تدمير الثورة لفعل ذلك منذ وقت مبكر، وفي الحقيقة فإنه حاول طوال الأشهر القليلة الماضية خلط الأوراق وضرب القوى السياسية بعضها بعضاً، إلا أن الثورة كانت عصية على الكسر، فقد أثبتت أنها أقوى من المخططات التي كان صالح يعدها مع صقوره للانقضاض عليها . كان الشباب الذين يخرجون إلى الشوارع بصدور عارية يمثلون أمل هذه الأمة، كانوا شباباً من مختلف الأعمار ومن مختلف المناطق، يجوبون صنعاءوتعزوعدن والحديدة وإب ومعظم مناطق اليمن ليتحدوا آلة الموت، كان كلما سقط منهم شهيداً ازدادوا عدداً، لم يكن أحد يصدق أن تجمعات بعدد الأصابع يمكن أن تغيروا وجه البلد بأكمله . عندما اعتصم عشرة أشخاص وباتوا أول ليلتهم أمام بوابة جامعة صنعاء كان الكثير من الناس يعتقدون أنهم سيملّون وسيعودون إلى منازلهم خوفاً من البرد والقمع العسكري، عندما بات أول فوج من الثوار ليلتهم الأولى في مدينة تعز ليلة سقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك، كانت السلطة تثق بقدرتها على تفريقهم وتشتيتهم، لكن الثوار أثبتوا أنهم قادرون على كتابة نصر جديد لليمن المقبل . في الثاني عشر من فبراير/ شباط الماضي، كانت معظم ساحات اليمن تتدفق إلى شرايينها الآلاف المؤلفة طلباً في التغيير، كان بعض رموز النظام يتساءلون على طريقة المسؤولين في مصر وتونس: ماذا يريد هؤلاء؟ لقد استجاب الرئيس لكل مطالب المعارضة، فلماذا يتظاهرون؟ لكنهم لم يكونوا يعلمون أن رياح الحرية والتغيير قد هبت ومن المستحيل إيقافها أو تغيير مسارها . بعد توقيع صالح على المبادرة الخليجية، وما رافقها من آلية تنفيذية، يكون اليمنيون قد رموا بحقبة تاريخية ثقيلة وراء ظهورهم، حقبة كان فيها ما فيها، لكن يجب على اليمنيين أن يتخذوا من المرحلة المقبلة فرصة لإعادة بناء حياتهم بطريقة مختلفة، صحيح أن النظام سيتغير، إلا أن القادم لا يجب أن ينسيهم التضحيات التي قدموها في فترة الثورة وعليهم الالتفات إلى المستقبل وعدم تكرار الأخطاء نفسها التي ارتكبها نظام صالح والاستفادة من التجارب العديدة التي مرت بها الثورة . حقبة جديدة منذ التوقيع على المبادرة الخليجية سيدلف اليمن مرحلة جديدة، سيكون على الثوار أن يتعاطوا مع المرحلة المقبلة بنوع من التوازن في الفكر والممارسة، عليهم أن يبقوا يقظين لأية محاولة لاسترداد النظام القديم أو أي من أدواته التي حكم بها البلاد أكثر من 33 عاماً . سيكون على الثوار ألا يبرحوا ساحات التغيير حتى تتحقق كافة الأهداف التي خرجوا من أجلها، صحيح أن صالح بمقتضى المبادرة الخليجية سيرحل، إلا أنه لا يجب إغفال أن بعض أدواته سيبقى لفترة من الوقت قبل أن يجري تطهير كل شيء . يجب ألا يتكرر مشهد ميدان التحرير في القاهرة من جديد في اليمن، على شباب الثورة أن ينجزوا ثورتهم كاملة من دون الحاجة للعودة من جديد إلى ساحات التغيير والحرية، على الثورة أن تنجز مهامها التي خرج الملايين من أجلها من دون نقصان، خروج صالح من المعادلة لا يعني أن كل شيء سيسير على ما يرام، إلا أنه في اعتقادي أن البلد لن تكون أسوأ مما هي عليه اليوم، لقد عاث النظام فساداً في البلد وتمكن خلال السنوات الطويلة من عمره أن يراكم الكثير من المصالح . الدولة المدنية هدف بجب أن يسعى الثوار إلى تحقيقه، وعليهم أن يثبتوا للعالم أنهم طلاب دولة لا طلاب سلطة، ليحكم من يحكم في المستقبل، لكن يجب أن تظلل دولة النظام والقانون، الدولة المدنية المتحضرة جميع فئات البلاد . على الثوار وأنصارهم أن يتنبهوا لمخاطر الانقسام على أسس شطرية ومذهبية وطائفية، وعلى الثوار أن يتأكدوا أن انتصار ثورتهم يكمن في الانتصار لأهدافها التي رفعوها منذ فبراير وحافظوا على سلميتها وأثاروا بها إعجاب العالم . من كافح من أجل التخلص من النظام العفن الذي جثم على صدور البلاد والعباد طوال أكثر من ثلاثة عقود، عليه أن يكافح بعد نجاح الثورة لبناء اليمن الذي ينتظره الجميع، فبإمكان الثورة أن تقدم نفسها بطريقة أفضل مما قامت بها ثورات أخرى في إطار ثورات الربيع العربي . سيكون على الثوار أن يتناسوا خلافاتهم التي ظهرت أثناء مسار الثورة، وأن يعملوا بشكل جدي لإعادة الطمأنينة للناس الذين عانوا الكثير جراء العقاب الجماعي الذي اتبعه النظام لضرب الثورة، خاصة إعادة الخدمات، والأهم من ذلك كله أن يتناسوا الأحقاد والضغائن التي خلفتها الأشهر الماضية من عمر الثورة ليبنوا يمناً جديداً خالياً من الأحقاد والثارات القبلية. من مظاهر الحقبة الجديدة التي يجب على الثوار عدم إغفالها إعادة ترميم ما علق بالثورة من أخطاء طوال الفترة الماضية، وأقصد الحالات التي ظهرت بتأميم البعض للساحات وهيمنة رأي على رأي آخر، فعلى الجميع أن يقتنعوا بأن كل الناس شاركوا في إنضاج الثورة وإنجاحها كل من مكانه، فهذا وحده هو الكفيل بحماية دماء الشهداء الذين سقطوا في أكثر من ساحة وأكثر من حي وقرية، سواء في العاصمة صنعاء أو بقية مناطق البلاد، خاصة تعزوعدن وأرحب، وهي المناطق التي نالت الكثير من تنكيل النظام ورموزه . مشاركة الجميع في الدولة المدنية الجديدة أمر ضروري وحيوي للحفاظ على مكاسب الثورة التي سقط من أجلها الآلاف من خيرة شباب البلاد من أجل إحداث التغيير، هذه الدولة هي التي يجب أن تكون حاضرة لدى الجميع، قوى سياسية وفكرية وقبلية وعسكرية، فبالدولة المدنية وحدها نستطيع حماية الثورة من أية انتكاسة يمكن أن تتعرض لها . التصالح والتسامح بعد نجاح الثورة على الجميع البدء بفتح صفحة جديدة من التصالح والتسامح، صفحة يجب ألا يشعر فيها أي مواطن بأنه مغلوب، سواء من هذا الطرف أو ذاك، يجب ألا يكرر الثوار الأخطاء التي ارتكبها الرئيس علي عبدالله صالح بعد حرب عام 1994 التي تعامل من خلالها مع شركائه في تحقيق الوحدة على قاعدة “المنتصر والمهزوم”، وكان من نتائج هذه السياسة الفرز المناطقي الكبير الذي نراه اليوم بين شمالي وجنوبي، مع أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة حتى في فترة ما قبل دولة الوحدة عام 1990 . على قاعدة “التصالح والتسامح” يمكن بناء يمن جديد خال من الأمراض المناطقية والمذهبية، ويجب منذ اليوم الأول لرحيل النظام القديم وأدواته البحث في شكل الدولة المقبلة وإعادة تنظيم البلاد بطريقة تحفظ للجميع حقوقه، والبدء الجدي والفعلي للبحث في خيار الدولة الاتحادية اللامركزية، التي تستطيع أن تحافظ على حقوق كل فرد من أفراد المجتمع وألا تغمط حقه . من دون شك هناك مخاوف جدية من مرحلة ما بعد رحيل علي صالح، لكن المؤكد أن عدم وجوده سيتيح فرصة للسياسيين أن يفكروا بطريقة أفضل، في فترة صالح كان الكثير من القوى السياسية تخشى “الطريقة الصالحية” في ردة الفعل، وقد خبر الكثير من هؤلاء طريقة صالح في التعامل مع الأحداث والأمور طوال العقود الماضية . اليوم سيتحرر الناس من هذه العقلية، بعد أن يدركوا أن صالح لم يعد بيننا ليحكم ويتحكم، بل هو خارج التاريخ مع كل أدواته القديمة، وبالتالي علينا أن نفكر في شكل وهوية الدولة المقبلة . ستكون هناك فترة انتقالية لمدة عامين، وسيتم خلالها انتخاب رئيس توافقي على أن يتبع ذلك إجراء حوار موسع لإعداد دستور جديد يستوعب كافة المخاوف السائدة اليوم، وينزع المخالب التي كانت تتوافر لرئيس الدولة، وأن يتحول الجيش إلى مؤسسة لحماية الدولة والشعب لا لحماية الفرد، مثلما هو سائد اليوم، حيث تم تفصيل الدستور والقوانين على مقاس الحاكم . من المهم وفق هذه المفاهيم أن ترسم معالم الدولة الجديدة، الدولة التي تكون قادرة على حماية مواطنيها لا قتلهم، حماية الدولة لا رئيسها، حماية القانون لا الأفراد، من هنا يمكن البدء بالطريق نحو المستقبل، وإذا ما تجاهلت الثورة هذه الحقائق فإنها سوف تكرر حقبة صالح من جديد، وهي حقبة قيل فيها الكثير، لكنها تبقى واحدة من المراحل التي على اليمنيين دراستها جيداً حتى لا يكرروها من جديد .