كتب/ فوزي الكاهلي * يتوالى منذ سنوات تشكيل تحالفات قبلية ومناطقية وسلالية ومذهبية.. ومن الملاحظ أنه كلما اشتدت وتنوعت أزمات البلد.. كلما ارتفعت وتيرة ظهور الكيانات المضرة بالوحدة الوطنية والدولة المدنية المؤسسية، الجامعة لكل المواطنين بمختلف انتماءاتهم المناطقية والأيدلوجية والدينية والمذهبية والسلالية والقبلية والحزبية..الخ. للأسف أن السلطة بدلا من اتخاذ خطوات وإجراءات حازمة لفرض هيبة الدولة، وترسيخ الولاء الوطني لكيان الدولة -وليس السلطة-، فإنها كانت هي المتسبب الأول في دفع الآخرين إلى التكتل في تحالفات وكيانات من تلك الأنواع السلبية.. وما زالت السلطة تعمل أو تساهم في انتعاشها.. بتقديم الدعم المباشر وغير المباشر لها.. أو بغض الطرف عنها في أقل الحالات سوءا.. وأهداف السلطة من وراء كل ذلك معروفة غالبا وسيتم الإشارة إليها ضمن سطور هذه المادة.. لماذا الحنين ل(الحمدي والانفصال)..! * أول أهداف الثورة ينص على (التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات).. فهل تحقق هذا الهدف (الأهم) طيلة 48 عاما مضت على قيام الثورة؟!!.. نعم تحقق بأشكال محدودة وفترات بسيطة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم.. وبوجه خاص في عهد الرئيس الحمدي (1974-1977) بالمحافظات الشمالية، وبمعظم فترات الحزب الاشتراكي منذ ما بعد الاستقلال في المحافظات الجنوبية.. وأما أسوأ فترة غاب فيها العمل على تحقيق هذا الهدف فهي العشر السنوات الأخيرة بلا ريب.. ولهذا تفاقمت الأزمات والمشاكل في السنوات الأخيرة وتصاعد زخم حنين أبناء المحافظات الشمالية لعهد الحمدي، حتى من الذين ولدوا بعد اغتياله، وارتفعت المطالبات بين مواطني المحافظات الجنوبية بالعودة إلى زمن ما قبل الوحدة، أو بتمني عودة حكم الحزب الاشتراكي بكل ما كان فيه من مساوئ يعتقدون بضآلة الصغيرة جدا مقارنة بمساوئ الحاضر، المستمرة بالتراكم والتضخم مثل كرة الثلج منذ أواخر التسعينيات..!! الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي كان قدوة عملية للمسئولين والمواطنين في تقديم الولاء الوطني على أي ولاءات دولية وإقليمية وأيدلوجية ومناطقية وقبلية.. أو أي ولاءات مصلحية أخرى.. وعمل بنزاهة وصدق على إيجاد عدالة اجتماعية ومواطنة متساوية بين كافة أبناء اليمن.. وقد ساعده الانعتاق والتحرر من تلك الولاءات في إحداث نقلات تطويرية وتحديثية لمؤسسات الدولة والمجتمع ككل، في زمن قياسي وبمستويات مشهودة إلى اليوم.. وأما الحزب الاشتراكي فقد حقق قدراً جيداً من العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية من خلال سلوكيات قياداته التي اتسمت بالنزاهة والحرص على بناء دولة القانون والمؤسسات.. رغم ما تخلل عهد الاشتراكي من صراعات سياسية ومناطقية وتطرف أيدلوجي في بعض الفترات. التجربة الإماراتية والنموذج السعودي *ثمة شبه إجماع بين اليمنيين اليوم بأن اليمن في المرحلة الحالية أبعد ما تكون عن النظام الجمهوري، الذي ضحى وناضل من أجله الثوار والأحرار.. وعن الوحدة اليمنية التي حلم بها وأرادها جميع الوحدويين الوطنيين في الشمال والجنوب.. وهذه هي الحقيقة الساطعة التي تكابر السلطة في الاعتراف بها لاعتقادها بمناقضة ذلك لمصالحها.. وعدم الاعتراف معناه انعدام النوايا الصادقة لحل الأزمات وإصلاح الأخطاء التي أوجدت هذه القناعات العامة تجاه الجمهورية والوحدة. * إن سلوك السلطة الحالية وطريقة إدارتها للبلد منذ أواخر التسعينيات تظهر وكأن هناك سعي لتحويل نظام الحكم إلى ملكي بصورة مكشوفة أو مستترة.. وإلا كيف نفسر هذا التكالب الشرس على السلطة والثروة؟!.. والمفارقة أنها ترتكب أخطاء كارثية تقود البلد إلى انهيار وتفكك لن ينفع بوجوده إقامة أي نظام، جمهورياً كان أو ملكياً.. يبدو أن نشوة انتصار يوليو 1994 قد جعلت البعض يفكر بإمكانية تكرار ما فعله عبدالعزيز آل سعود قبل مائة عام عندما استخدمت الأوراق الدينية والقبلية والمناطقية والمالية (إضافة إلى دعم الخارج) والقوة المسلحة لتوحيد نجد والحجاز وإنشاء مملكة باسمه أوائل الثلاثنيات.. طبعا الزمن مختلف.. والأوضاع متباينة.. مع أن آل سعود ما زالوا يحافظون على توحيد أراضي المملكة تحت سيطرتهم بنفس أساليب والدهم في التستر بالدين وشراء الذمم والولاءات بالأموال والمناصب.. ولكن ما يميزهم حرصهم على العمل المؤسسي في أجهزة الدولة وإنفاق جزء من عائدات النفط الهائلة على تحسين معيشة المواطنين وتطوير بعض المجالات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية.. غير أن ترليونات عائدات النفط كان يمكن أن تجعل من السعودية أفضل بكثير مما هي عليه.. يفترض أنها تنافس الصين والهند وكوريا وماليزيا وسنغافورة وغيرها من الدول الناهضة.. لو استغل النظام السعودي ثروات المملكة لصالح مواطنيها بشكل أفضل. أما السلطة القائمة في اليمن فكانت تستطيع البقاء مسيطرة على مقاليد الحكم لعدة عقود قادمة..كان بإمكانها الاستفادة من تجربة الشيخ زايد -رحمه الله- في الإمارات مثلا.. فهذا الرجل له حكاية مع الحكم في بلاده تستحق التأمل.. عندما كان لا يزال ولي عهد أبو ظبي في الأربعينيات والخمسينيات .. عمل -قبل ظهور النفط- على إيصال الماء والخدمات المتاحة آنذاك إلى كل مناطق الإمارة التي كان دائم التنقل بينها لمساعدة الناس وتخفيف معاناتهم حتى أحبه سكان الإمارة وبما فيهم أخوه الذي تنازل له عن الحكم طواعية في الستينيات.. وبعد سنوات قليلة -أي في النصف الثاني من ذلك العقد- بدأ يتحرك لإنشاء اتحاد بين أبو ظبي والإمارات المجاورة وبما فيها قطر والبحرين اللتين وافقتا في البداية ثم انسحبتا.. وفي بداية السبعينيات تمكن من إنجاز مسعاه التوحيدي للإمارات السبع لعدة أسباب.. أولها تعهده بتخصص نسبة من عائدات نفط أبو ظبي لإنشاء وتطوير البنى التحتية لبقية الإمارات.. وثانيا التزامه باحترام خصوصية كل إمارة ومعاملة عائلاتها الحاكمة بالندية والمساواة بصرف النظر عن حجم كل إمارة وإمكانياتها الاقتصادية. والموافقة على تدوير رئاسة الدولة الجديدة بين حكام الإمارات السبع كل سبع سنوات تقريبا.. ومع تنفيذه لكل ما ورد في اتفاقية الاتحاد، وبأروع مما كان مطلوبا منه كسب حب حكام الإمارات وولاء مواطنيها المطلق، لا سيما وأنه لم يظهر أي أطماع أو تعامل بدونية مع أي إمارة طوال رئاسته للإمارات (1971-2004م) ولم يعمل على خلق صراعات بين حكام الإمارات الأخرى ليضمن حاجتهم الدائمة له، بل كان كل همه بقاء الاتحاد متماسكا بالحب والتعاون والارتقاء بمستوى حياة المواطن الإماراتي أينما كان.. ولهذا عندما توفي توقع الكثيرون انتقال الرئاسة إلى دبي بحسب الدستور واتفاقية الاتحاد.. غير أن آل مكتوم تنازلوا عنها لولده الأكبر إجلالا للشيخ زايد وتقديرا لما قدمه لأبناء الإمارات. المواطنة المتساوية والتسامح الديني والمذهبي * نعود إلى الحديث عن اليمن لنقول: نشر ثقافة المواطنة المتساوية وتجذيرها بين الناس هي مهمة رأس السلطة بدرجة أساسية، بتقديم القدوة العملية على ذلك، وبتفعيل الإجراءات القانونية والإدارية المؤكدة لها.. عندما يشعر المواطن التعزي والعدني والحرازي والريمي والتهامي والوصابي واللحجي أن حقوقه وواجباته متساوية مع الحاشدي والسنحاني.. الخ، سيصبح الانتماء الوطني فاعلا قويا في خلق ولاء للدولة واحترام مؤسساتها.. وبالمثل عندما يشعر المواطن اليمني بأن لا علاقة لاسم منطقته أو قبيلته أو دينه أو مذهبه أو حزبه أو أسرته بالحصول على منحة دراسية أو وظيفة أو منصب أو مناقصة تجارية، حينها ستصبح اليمن أغلى بالفعل، واليمن أولا حقيقة واقعية وليس مجرد شعارات جوفاء، أيضا نحن جميع أفراد المجتمع نتحمل مسئولية في تكريس ثقافة المواطنة المتساوية، بالتخلي عن ثقافة (هذا من أصحابنا) أكان المقصود بها مناطقيا أو ايدلوجيا.. أو غير ذلك.. ومن يستطيع منا تقديس المواطنة المتساوية قولا وعملا.. فهو الإنسان الوطني بالفعل.. وسيساهم في إحداث تغيير إيجابي كبير في البلد.. وما عداه فكل من يدعي الوطنية ويتحدث عنها هو كاذب ومخادع لنفسه وغيره.. أكان قائدا سياسيا أو عاطلا عن العمل في أفقر قرى اليمن.