كتب/ قادري أحمد حيدر قال الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي : قال حذيفة : إياكم ومواقف الفتن ! قيل وما هي ، قال أبواب الأمراء ، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه " ص 156. وقال أبو حامد الغزالي الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى إما بغفلته أو بسكوته ، وإما بقوله وإما باعتقاده فلا ينفك عن أحد هذه الأمور" ص 157. انظر كتاب إحياء علوم الدين الجزء الثالث ، الباب السادس ، باب " ما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم " . إن ما سبق من قول الإمام أبي حامد الغزالي إنما يدخلنا إلى سؤال من يصنع الطاغية ؟ ومن يهندس الوجود الذهني للديكتاتور ؟ إنه سؤال أكثر من عادي لشدة امتلاء حياتنا السياسية العربية بالاستبداد والطغيان ، حتى صارت كلمة الرئيس الديكتاتور أو الطاغية مشاعة مثل الماء والهواء ، مع فارق فائدة الأخيرة، ومأساة وجود الأولى على واقع حياة العرب ، فقد حول حكامنا العرب الوعي الذاتي بالطغيان إلى سيكلوجية عامة في ثقافة الإنسان العربي وفي سلوكه اليومي ، وفي هذا السياق تلعب كتابات الكتبة المأجورين فقهاء السلطان دوراً ، لقد صارت الإجابة على سؤال من يصنع الطاغية مثل الإجابة على بعض الأسئلة السهلة الممتنعة ..، منها ما يعود إلى أوضاع تاريخية مرتبطة بإشكالية وعي الحرية في ثقافتنا العربية السلطوية، وفي طول حقب مراحل الاستبداد التاريخية ، والتي تحولت إلى نفسية اغترابية استمرأت الاستبداد ، بعد أن اغتربت عن ذاتها وكينونتها الإنسانية الحرة ، ولعب تاريخ الاستبداد الشرقي الأسيوي خاصة في المنطقة العربية دوراً هائلاً في محو أو انمحاء الشخصية الفردية ، وإلغاء كل الفروق الفردية بين البشر كأفراد ، وضاع من قاموس حياتنا العامة والخاصة معنى وجود الفرد الطبيعي، بعد أن تحول الفرد إلى مجرد رقم في قطيع ..، ومع ذلك لم يعمل الحكام شيئاً لأوطانهم ..، لا تنمية ولا إنتاجاً ، ولا تقدماً علمياً وصناعياً أو تكنيكياً - حتى في الحدود الدنيا - ولم تر حياتنا العربية الحديثة والمعاصرة لا تقدماً ولا ازدهاراً ، ولا عقلانية ولا تنويراً، فما الذي يجعلهم حكاماً على شعوبنا غير الاستبداد والطغيان والقهر ، بل ومحاولاتهم في العودة للحكم الوراثي بعد تضحيات الثورة وشهداء الجمهورية . فعلى سبيل المثال لقد بدأت الثورة الاشتراكية، - البلشفية - أو حسب تعبير البعض" رأسمالية الدولة الاشتراكية " ، على كل أخطائها وسلبياتها ، بدأت بالتنمية ، ونقل مجتمع إقطاعي زراعي شبه رأسمالي احتكاري إلى مرحلة أعلى اقتصادياً ، أسهمت بتغيير مجرى العالم كله ، اهتمت بتراكم الثروة المادية والاقتصادية للمجتمع وفي تطوير الإنتاج العلمي والصناعي والتكنيكي ، والعسكري ..، على أن مأساة تلك التجربة هو ذهابها في التوجه إلى بناء الإنسان ذي البعد الواحد - حسب تعبير هربرت مركوز - وهي مأساة غياب الحريات ، وانعدام الديمقراطية السياسية ، والتعددية بكافة أشكالها بعد ابتلاع المجتمع المدني داخل الدولة، وحكم الحزب الواحد الشمولي ، مما أعاق بالفعل اكتمال صورة التحول الديمقراطي الشامل ، إن الأحلام الكبرى والعظمى في التاريخ الإنساني لا توجد ولا تولد دفعة واحدة..، ومع هذا انتقل المجتمع الإمبراطوري القيصري إلى مجتمع سوفيتي أكثر مساواة وعدالة ، ولكن خارج شرط الحرية ، والممارسة الديمقراطية، استطيع معه القول إن السوفيت انتقلوا بقفزات جبارة في الإنتاج والتنمية الشمولية ، عبر القاطرة الفردية الشمولية ، من خلال تكريس عبادة الفرد ، بعد أن تم شخصنة كل شيء ، وتجيير كل قضايا الوطن والمجتمع السوفيتي لصالح دور القائد الرمز صنمية الفردية. والظاهرة في تصوري ليست فردية مرتبطة بشخص أو اسم ستالين حصراً ، - أو غيره من رموز الاستبداد - بقدر ما يرتبط جزءٌ كبير منها بالشروط الموضوعية، الثقافية والسياسية التاريخية والذي لا يلغي دور الإرادة الذاتية الإنسانية الفردية، والعامة في المجتمع كله . كما لا يلغي دور ستالين وغيره من الحكام الطغاة من المسئولية الفردية والأخلاقية والسياسية على كل ما صنعه ستالين من مآسٍ وكوارث للشعوب السوفيتية ، وكذا ما صنعه من مجد للدولة الإشتراكية ، التي ولدت من انحطاط وتخلف القيصرية الإقطاعية. ومن هنا نقرأ تفسير ظاهرة العلاقات البطريركية - الأبوية - وظاهرة أبو العائلة - أو "العيلة" حسب تعبير الزعيم "المؤمن" بين قوسين ، أنور السادات ...، حيث يرتفع خلالها الرئيس ، أو القائد موحد الوطن ليتوحد بالدلالة الرمزية لمعنى القديس ، صاحب الصفات التي ترتفع فوق مستوى الوجود البشري لاقتراب اسمه من صفات الذات المتعالية على النقد والمقدسة عن القراءة والمساءلة ، وكأنه من أوجد الشعب، ومن صنع الوطن ، وهندس تاريخ الأمة ، وحين تقترب القراءة من هذا المعنى أو التفكير فلا يصبح هناك فرق بين صاحب الوحي وحامل اسم النبوة ، النبي ، وبين الحاكم المستبد ، ومن هنا حديث بعض المثقفين المأجورين وعاظ السلاحين عن قداسة وخصوصية دور القائد الضرورة، القائد الرمز، الذي ترفعه بعض الأقلام إلى مصاف الدلالة الرمزية للمقدس، والخالد ...، فكل شيء يعود إليه من وجود الشعب، إلى الثقافة ، إلى التاريخ، إلى الوحدة والديمقراطية الغائبة . وعند هذه اللحظة تضيع كل بطولات الشعب وأمجاده ، بل إن اسم البلد أو الوطن يرتبط باسمه ، إنه التماهي والاختلال العظيم بين الذات، والموضوع ، بين الحاكم الفرد ، والشعب ، بين المؤسسة والرئيس، والمسألة في التحليل الأخير ظاهرة خاصة وعامة أي أنها في جوهرها ظاهرة تاريخية، وليست ظاهرة شخصية محددة باسم معين ...، والحقيقة أن ظاهرة القائد الرمز ، والبطل الزعيم ، والقائد الضرورة ، جميعها انعكاسات موضوعية ، وذاتية لغياب الديمقراطية ، والحرية، وانعدام الشروط الدنيا لفكرة المواطنة، لأن كاريزمية البطل والزعيم الرمز مرتبطة بالمجتمعات الاستبدادية غير الديمقراطية ... عشرات من رؤساء الجمهوريات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، الذين صنعوا مجد استقلال شعوبهم وأوطانهم انتهى بهم المطاف للعيش في قراهم الصغيرة ، ومنازلهم البسيطة ، بل إن البعض منهم تعرض للمحاسبة والنقد بعد كل ذلك الدور، من هانس الذي احتل جنوباليمن في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، إلى ونستون تشرشل بطل بريطانيا في الحرب العالمية الثانية ، إلى فضيحة ووترجيت مع الرئيس الأمريكي نيكسون ، إلى محاكمة أولمرت في إسرائيل قائد العدوان على غزة في عام 2008م-2009م بسبب قيمة تذاكر صرفت لزوجته، إلى محاكمة رئيس إسرائيل الأسبق بسبب التحرش الجنسي بإحدى موظفات مجلس الوزراء . إن الحكم الفردي المطلق في منطقتنا العربية وغياب المحاسبة والمساءلة هو من أبرز الأسباب لبروز دور القائد مدى الحياة ، الذي لا ينتهي إلا برحمة من السماء لشعبه - أي بموته - أو بالانقلاب العسكري على حكمه ، فالطغاة هم من صناعة عبيدهم حسب تعبير خيري منصور. إن قراءتنا لمن يصنع الطاغية ؟ إنما تدخل في صميم دراستنا لتطور دور الشخصية الإنسانية - أو الفرد - في لعب دور " ما " في تاريخ شعبه ، دون رفع هذا الدور الموضوعي والإنساني إلى مصاف القداسة أو الدلالة الرمزية الخالدة للفرد أو القائد الرمز ، الذي لولا دوره هو لما تمكن هذا الشعب من الوجود أو من صنع تاريخه الآتي بل ومن الحياة ، إننا يجب أن ننظر إلى الشخصية الإنسانية في تجددها وفي إبداعها الثقافي الإنساني، وفي المستويات الاجتماعية المختلفة ...، ولا ننظر إلى الشخصية من منظار أحادي الجانب، بل نحاول أن نرصد جملة العلاقات الاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية ، التي تقوم بصياغة الشخصية بدءاً بالعائلة ، وصولاً إلى أجهزة الدولة الأيديولوجية ، ومروراً بالمعايير والقيم المسيطرة في الحياة اليومية ... وبهذا المعنى نستطيع أن نقرأ الشخصية الطغيانية أو القائد الرمز ، رب العائلة، ومالك الدولة ، وواهب العطايا والنعم ، أو رئيس الجمهورية ، مطلق الصلاحيات ، نقرأها في وحدة الشخصي، بالتاريخ المادي، بالرمزي ، بالاقتصادي ، بالأيديولوجي ...، حتى نلم بصورة الحاكم الطاغية ومن يصنعه ؟... ولكل حالة عربية خصوصيتها السياسية ، والمادية والثقافية، والتاريخية ، لأن الكتابة العمومية هنا لا تغني عن المقاربة الذاتية الملموسة والتاريخية لكل شخصية على حدة ، وهنا تكمن وحدة الذاتي ، بالموضوعي، والتاريخي، بالمنطقي ، حتى لا ترتفع درجة الخصوصية أو الاطلاقية إلى مصاف التجريد والعمومية حول مسألة الرئيس الديكتاتور والطاغية ، لأننا بذلك نجرد هذا الزعيم ، أو الرئيس الرمز ونحرمه من بعض صفاته الاستبدادية الفردية ونمحو الفروق النسبية بينه وبين باقي البشر الذين صنعوا مجد اسمه وحولوه إلى رمز وعظيم وبطل . أو كما يقول الشاعر أحمد مطر : " نحن وضعنا بيديه الأسلحة ووضعنا تحت رجليه النحور وتواضعنا على تكليفه بالمذبحة ". ومن هنا في تصوري خطورة الكلام عن كتابة التاريخ في أي مكان عربي، لأنه سيكتب تاريخاً بعقل السلطة ...، ولهذا لا أستغرب أن يقول أحد رؤوساء الوزراء اليمنيين بعيد حرب 1994م مباشرة ما معناه أن له الفخر أنه يعيش في زمن الرئيس علي عبدالله صالح، فضلاً عن الافتتاحيات الرسمية التي تلهج بدور غير مشهود له بالتاريخ لأي زعيم قبله ولا بعده ...، ومن هنا لا أستغرب عدم تشكل ظاهرة رأي عام سياسي ديمقراطي في اليمن يعكس رأي المجتمع، والذي في تقديري أن أسلوب أداء المعارضة يلعب دوراً في إضعافه أو في عدم قدرته في تعبيره عن نفسه ، وأؤكد هنا أن الديمقراطية في عالمنا المعاصر - المعولم - لم تعد هي الحل السحري إذا لم ترتبط بالتنمية، والإنتاج، والعدالة الاجتماعية فلا يمكننا أن نتجاهل اليوم أن للديمقراطية بعدين ، أو جناحين ، هما : الديمقراطية السياسية ، والديمقراطية الاجتماعية الاقتصادية ، وبدونهما ندخل في فوضى الراسمالية المتوحشة . فالثقافة الديمقراطية هي- كما يقول المفكر جورج طرابيشي - " شرط تخصيب التربة ، وشرط النماء ، وبدون ثقافة الديمقراطية التي ينبغي أن تكون في رأس جدول وظائف الانتلجنسيا العربية المتدمقرطة ، فإن الإجرائية أو الشكلانية الديمقراطية كما قد يؤثر بعضهم أن يقول قد تنقلب وبالاً على الديمقراطية نفسها ، فالديمقراطية هي بالتعريف نقيض الطغيان وترياقه ولكن بدون ثقافة الديمقراطية فإن الشكلانية الديمقراطية - العولمية - قد لا تكون حاملة معها إلاَّ اسم الطغيان ، وحصراً منه طغيان الفرد " (1). لأن الديمقراطية نظام للحكم بقدر ما هي نظام للمجتمع كله، وهي بالأصل نظام للتفكير والثقافة ، والديمقراطية ليست لفئة أو طائفة تقوم على أساس عمودي وتلغي بذلك الوجود الاجتماعي الأفقي لمعظم السكان . ولا يمكن أن نزيل الطغيان والاستبداد بالشعارات، بل من خلال تحرير المرأة ، وتوسيع نطاق التعليم ، والعدالة في توزيع الثروة الوطنية، وتعميم حضور فكرة المواطنة ، والأهم هنا إطلاق الحريات الفردية الإنسانية ، وتحرير المبادرات الفردية من أسر العلاقات الأبوية البطريكية ، ومن هيمنة عقلية الجماعة ، والبنى التقليدية ...، كما لا يمكن أن نؤسس لديمقراطية صحيحة تقف ضد الاستبداد دون احترام حقيقي للدستور وبعيداً عن شخصنة الدستور والقانون التي يقوم بها بعض وزراء العدل عديمي الضمير الذين يجهدون ليجعلوا من الدستور مطية لمصالحهم الخاصة وباتجاه معاد لمصالح الشعب وحريته وسيادته ... وهنا أتذكر موقف النحاس باشا في مصر كيف خاض صراعاً مريراً من أجل عدم تغيير مادة من الدستور وكان ذلك في مواجهة ، الملك فاروق ملك مصر ، لقد تحول عدد من المثقفين إلى كتبة مأجورين هم اليوم أبرز الفئات أو الجماعات التي تصنع الطاغية والاستبداد ، وتبرر الجريمة ، وتجعلها علنية ومشروعة ، وفاضحة . ختاماً سأورد لكم مثالاً عن أحد الملوك الجبابرة والأباطرة حين وقف أمام حشد شعبي كبير ليسأل أحد أبرز شعراء ومثقفي بلاده ... سأل الملك الشاعر أمام الحشد الشعبي كم أساوي أنا في نظرك فأمعن فيه الشاعر وأجاب إنك تساوي خمسة وعشرين ألف دينار ... فغضب الملك من الشاعر وقال له : إن الحزام الذي على خاصرتي يساوي خمسة وعشرين ألفاً ... فقال له الشاعر الكبير : ذلك هو ثمنك أو قيمتك الحقيقية ... هذا بعد أن وصفه البعض بأنه حكيم الأمة ، وصانع مجدها ، بل إنه آخر الأنبياء والرسل ، فغضب الملك غضباً شديداً وأمر بإعدامه ، وبعد تفكير سريع تراجع عن ذلك مكبراً روح البطولة في المثقف الشاعر وقال في نفسه لا يتجرأ على قول ذلك إلاَّ شاعر أمة عظيم ، فقد أعاد الشاعر العظيم الملك المعتوه إلى رشده وصوابه ، وأدرك أنه أكثر نصحاً وحباً للوطن من الجميع الذين كالوا له المديح. ونحن اليوم في الوطن العربي بحاجة إلى مثل هؤلاء المثقفين، والشعراء الأحرار ... لأننا عندها يمكننا أن نقول إننا نؤسس لثقافة ديمقراطية ، ثقافة ديمقراطية في العائلة ، وفي السياسة ، والمجتمع ، والفكر ، والثقافة ... ثقافة تلغي الوجه الاستبدادي للحاكم الطاغية ... فهل نبدأ خطوة الألف ميل منها بأنفسنا أولاً ؟؟.... * الهوامش : * كاتب وباحث يمني 1. جورج طرابيشي - مجلة أبواب - عدد (10) تم الاستشهاد بتصرف من الكاتب .