عن العدالة الانتقالية سوف نتحدث متسائلين.. كيف يمكن تحقيق العدالة الانتقالية؟.. هل الوضع الحالي في اليمن ينبئ بتطبيع العدالة الانتقالية؟ ما هي طبيعة الآليات والعمليات المرتبطة بتحقيق العدالة الانتقالية؟ وللإجابة على ذلك نقول : إن تحقيق العدالة الانتقالية ليس بالأمر السهل في ظل مجتمع كالمجتمع اليمني، تم إقصاء مؤسساته وتحييدها عن العمل على مدى عقود من القهر السياسي ، وفي ظل إطار آمن يكاد يكون معدوماً وتيارات وأحزاب سياسية واجتماعية منقسمة على نفسها وموارد مستنزفة ، والأهم من ذلك الصدمة والتخوين، بالإضافة إلى انعدام بنية تحتية في مؤسسات الدولة وافتقار الاحترام الحكومي لقيم حقوق الإنسان علاوة على حداثة القوى السياسية التي وصلت إلى سدة الحكم (حداثتها بالعمل السياسي وبالخبرة السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق تلك المفاهيم) ، ولذا فإن الأمر يتطلب خطوات عديدة، نوجزها في الآتي: أولاً : الإرادة السياسية : تعتبر المحرك الأساسي المنوط به تحقيق العدالة الانتقالية فإذا لم تتوفر الإرادة السياسية لن يتم تفعيل جميع القوانين والقرارات الجديدة التي أنشئت من أجل هذا الغرض، وقد تم التفعيل في هذا الصدد متمثلاً في قرار الأخ رئيس الجمهورية، الذي اتخذ بهذا الخصوص، ولكن عدم الجدية في التنفيذ والمماطلة والتلكىؤ والمطالبة بامتداد المدة الزمنية بأكثر مما ورد في القرار، وهي مطالبة ربما يشوبها المبالغة أو المزايدة ليس إلا، حيث أن القرار لم يتم إصداره إلا بعد دراسة متأنية لكل الظروف المحيطة والمعطيات المتاحة والإمكانيات المتوفرة للتطبيق العملي ، وبناءً عليه فإننا نرى أن الأصوات التي انطلقت معارضة لهذه المدة ومزايدة عليها لا أظن أنها كانت صائبة ، كما أن الجدل العقيم قد يؤدي إلى إعادة إنتاج النظام القديم . ثانياً: سيادة القانون ، كما أن أية سلطة جديدة أو نظام حكم جديد يحاول تثبيت وتدعيم سلطته على الحكم وجعلها على جدول أولوياته، وهذا حق مشروع ومطلوب في نفس الوقت ، ولكن هناك محذور قد يكون في غاية الأهمية وهو أن لا تنشغل السلطة الجديدة بتثبيت أقدامها في الحكم وتجعله من أهم أولوياتها ، وتنشغل به عن تعزيز سيادة القانون بل وربما قد ينظر إلى سيادة القانون عند التطبيق على أنه خطر على تدعيم وتثبيت سلطتها الجديدة ونقصد بها - السلطة الانتقالية - أعني أن لا تتخذ هذه السلطة الانتقالية منزلقاً، وأن لا تكرر الانتهاكات التي كان النظام السابق يتبعها بدواعي الحرص منها لتثبيت النظام الجديد، وهذا للتذكير فقط ليس إلا، وبناءً عليه فإنه من الضرورة بمكان توخي الحذر والحيطة عند إقرار قوانين خاصة بمعاقبة النظام السابق حتى لا يتسبب ذلك في قوة ترسانة القوانين الاستبدادية المعرقلة للحياة الديمقراطية ، وذلك عن طريق البعد عن القوانين الاستثنائية، التي تخل بمعايير العدالة الجنائية، ولا تحقق قيام محاكمات عادلة ، فالغرض من تطبيق العدالة الانتقالية ليس هو الانتقام من النظام السابق وأركانه بل الوقوف على حقيقة ذلك النظام وتحديد الضحايا من أجل إعادة الاعتبار لهم ، في إطار الهدف الواسع ، والسامي ألا وهو الوصول إلى العدل. ثالثاً: استقلالية السلطة القضائية: إذ أنه لا يمكن أن نتخيل أي نوع من تطهير المؤسسات أو عزل الجناة أو حث المحاكمات دون إقرار قانون جديد للسلطة القضائية يضمن استقلاليتها وتحريرها من سطوة الجهات الأمنية . كما أن المطلوب ليس فقط ضمانة استقلال القضاة ولكن -أيضاً- النيابة العامة . وعطفاً على ما تقدم أود وفي نفس السياق أن أشير إلى الحقائق الآتية، والتي تكون قد غابت عن أذهان هؤلاء - بقصد أو دون قصد - المحتجين ، والمعارضين لقرار رئيس الجمهورية وفي المقدمة منهم أحزاب اللقاء المشترك وشركاؤه، نقول لهؤلاء -جميعاً-: إن رئيس الجمهورية قد ورث تركة (ثقيلة) تنوء منها الجبال، ولكنه تحملها بشجاعة وإقدام نادرين لأنها تكليف شعب وثورة انتصرت لهذا الشعب بعد معاناة وتضحيات جسام فما كان منه إلا أن يذعن لهذا ويحقق إرادة شعب أراد الحياة بعد طول معاناة . ثانياً : هناك تكليف من المجتمعين الإقليمي والدولي وفقاً لما ورد في المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة مؤيدة لقراري الشرعية الدولية، اللذين حددا الخطوات والآلية التي تسير وفقا لها الجوانب الإجرائية في التنفيذ والموضوعات التي تم الاتفاق عليها بحسب أولوياتها المزمنة . ثالثاً : إن هؤلاء المحتجين والمعارضين لقرار رئيس الجمهورية فيما يخص العدالة الانتقالية - نسوا أو تناسوا - أنهم شركاء في السلطة وفي صنع القرار باعتبارهم مستشاري رئيس الجمهورية، فما الذي حدث وكيف؟، ربما تبدلت المواقع واختلفت الرؤى وتباينت المواقف من النقيض إلى النقيض ربما لست أدري ؟؟.. إن الأمور السابقة تحتمل الكثير من المناقشة كما أن جزءاً من الحقائق، وربما جزءاً مهماً، لم يتضح بعد، يضاف إلى ذلك أن الثورة الشبابية في ساحات التغيير ما زالت تتفاعل، ولم تعطِ بعد كل نتائجها، ومع ذلك من المفيد والضروري الآن التوقف عند بعض الظواهر التي أفرزتها هذه الثورة، ومحاولة قراءتها بعقل مفتوح، ولهذا فإن من شأن هذه القرارات بالذات أن تجعل الأمور أكثر وضوحا، واعتمادا على هذه المعطيات، فإن القيم والمقاييس والعلاقات التي كانت سائدة والتي تم على ضوئها ترتيب الوضع الخاص لكل القوى السياسية ذات العلاقة بالمبادرة الخليجية وقراري مجلس الأمن المؤيد والداعم لها - أي للمبادرة الخليجية - يجب أن تخضع جميعها للمعطيات الجديدة فكراً وممارسة ونظرة وسلوكاً . لقد قامت صيغة التحالفات في هذا البلد طوال الفترة الماضية وحتى الآن، على ما هو أقرب إلى الهشاشة وعدم التكافؤ، إضافة لما يشوبها من الارتياب والحذر بنظر أطراف التحالف أنفسهم ، وأيضاً عجز هذه الصيغة عن تحقيق إنجازات ملموسة. هذه الحالة - التي تتصف بها القوى السياسية اليمنية - والتي بدأت منذ وقتٍ مبكر تتجلى بأوضح معانيها وصورها في العام 1994م، عندما وقفت هذه القوى موقفاً سلبياً من وثيقة العهد والاتفاق في العام نفسه ، والتي وقعت في المملكة الأردنية الهاشمية وكانت هذه القوى قد باركت هذا الحدث وشاركت فيه، و لكنها عندما حان وقت تنفيذ بنود هذه الاتفاقية، ورفض النظام في صنعاء الانصياع لما ورد في بنودها، ملقياً بها عرض الحائط، رافضاً العمل على تنفيذ جميع بنودها، وتم إسقاطها من قِبَل هذا النظام وإلغاء مفعولها بشنه الحرب على دولة الجنوب وشعبها في ذلك العام فما كان من هذه القوى إلا الوقوف إلى جانب النظام السابق في صنعاء وإعطاؤه الشرعية والصبغة الوحدوية، باعتبار أن حربه هذه التي شنها على الجنوب وأهله هي دفاعاً عن الوحدة، وأن هذه القوى في خندق النظام باعتباره المدافع عن الوحدة وشرعيتها ضد دولة الجنوب، الذين هم في نظر هؤلاء ضد هذه الشرعية بعد أن قاموا بفك الارتباط وإنهاء الشراكة بينهم وبين النظام في صنعاء، بينما القرار الجنوبي لفك الارتباط وإنهاء الشراكة هو نتيجة الحرب التي أنهى بها النظام في صنعاء اتفاقية الوحدة برفضه الانصياع لقرارات الشرعية، ووثيقة المصالحة التي هي وثيقة العهد والاتفاق ، وكان هذا الموقف الذي اتخذ من قبل هذه القوى والتي تدعي بالوحدوية والديمقراطية، كان موقفها هذا صدمة للشعب في الجنوب . نقول هذا ليس من أجل التذكير بواقع مؤلم مرير وقفته هذه القوى المشاركة الآن في السلطة وصنع القرار وإنما للتذكير وإعطاء تحديداً لمواقف كل القوى على الساحة اليمنية، كما أنها ظلت على موقفها هذا من قضية الجنوب دون أن تحدد موقفاً حازماً، صريحاً، معلناً اعترافها بأن ما حدث من اعتداء على دولة الجنوب وتدمير أرضها ونهب ممتلكاتها وثرواتها وتشريد شعبها والذي يدل بأن القضية الجنوبية هي قضية سياسية بامتياز وليست قضية مطلبية حقوقية تدعو إلى التعاطف ومد يد العون لأبناء الجنوب الذين ابعدوا من وظائفهم، وشردوا من ديارهم، والتي تقف منها هذه القوى السياسية موقف المتعاطف مع عودة الحقوق وتعويضهم في ممتلكاتهم وما حدث لهم ، دون أن تشير أو تحدد موقفاً واضحاً جلياً بأن قضية الجنوب هي قضية سياسية بامتياز ، قضية وطن وثروة اغتصبت من قبل حكومة صنعاء بقوة السلاح . هذه القوى هي التي توجه الآن سهام النقد للرئيس هادي - برغم أنها شريكة في السلطة وفي صنع القرار - عند تطبيق العدالة الانتقالية، والتي هي تطبيق لما ورد في الجانب الإجرائي من المبادرة الخليجية وقرارات الشرعية الدولية، هذه المبادرة التي هم أول من وقع وبصم على جميع بنودها، وهي التي أتت بهؤلاء إلى السلطة والمساهمة في صنع القرار ، الذي انتظروا عشرين عاماً، وهم يفاوضون النظام السابق، ولم يحظوا بشيء مما وصلوا إليه الآن، والذي هو ثمار تضحيات الشباب الذين ثاروا وملأوا الساحات، مطالبين بالتغيير ودفعوا ثمنا له دماءهم.. ولكن الحصاد وجني الثمار كان لغيرهم أي هؤلاء الذين يحتجون على الرئيس، معارضين المدة الزمنية التي حدد بدايتها في قراره بالعام 2011 م، وهم على هذا معارضون دون أن يتفحصوا ويتمعنوا ما ورد في تفاصيل بنود المبادرة وقرارات الشرعية، والتي تعطي الحق للرئيس في حالة وجود خلاف حول أي موضوع من موضوعات التسوية ، ليتخذ بصددها القرار الذي يراه مناسباً، ويشير بالاتجاه الصحيح للتسوية السياسية وهم في مواقفهم هذه آخذين موقف المعارضة للنظام والحكومة، بينما هم ليسوا كذلك، إذ أنهم مشاركين في الحكومة ونظام الحكم، وهذا هو مانبههم إليه رئيس الجمهورية بأن ليس هناك معارضة وحكومة، الكل في الحكومة والكل مسئول عن صنع القرار في هذه الحكومة، حكومة التوافق للمرحلة الانتقالية بحسب ما ورد في المبادرة الخليجية وقرارات الشرعية الدولية، فيما يخص التسوية السياسية . لقد أصبح أكثر المتشدقين بالثورة - من هذه القوى السياسية - والناطقين باسمها والمزايدين عليها هم أكثر الذين يضعون العراقيل أمام ديمومتها ، وإذا كانت الثورة قد ارتبطت بهذه القوى السياسية خلال فترة معينة فإن جدية هذه القوى تتمثل بالدرجة الأولى في الالتزام للثورة وتطبيق هذا الالتزام عملاً وتجسيداً ، وأن تكون أكثر أمانةً ووفاء في العمل والإخلاص للثورة وجماهيرها، لا لأن تستغل الشعار طمعاً في الوصول إلى موقع السلطة فقط .. كما تنازلت هذه الأحزاب والقوى السياسية عن استقلالها وانتمائها وعن ممارسة دور الرقابة المحايدة والنزيهة وتقويم الأخطاء، وتخلت -أيضاً- عن البرنامج المشترك ، واكتفت بوصولها إلى السلطة ، وبهذا التغير الذي حصل تم التنازل عن البرنامج السياسي، الذي كان يميزها . هكذا كانت بصورة عامة وإجمالية ، مواقف هذه القوى والأحزاب السياسية من الثورة ، كما أن هذه الأحزاب والقوى السياسية بمفردها أو بمجموعها ، لم تستطع أن تقدم تصورا علميا وعمليا للقضايا الأساسية المطروحة - وما أصعبها وأكثرها - وإن حاولت فإن محاولاتها في معظم الأحيان لا تخلو من الأدلجة وعدم الحيدة ، فاكتفت بالهروب من هذه القضايا، أو تأجيلها، أو المزايدة عليها، أو تقديم إجابات عامة عليها، الأمر الذي جعل الجماهير في حيرة مستمرة من أمر هذه القوى والأحزاب السياسية . وانطلاقاً من هذه الأفكار التي فصلتها ولكي نثق أن مجتمعاً جديداً ودولة مدنية حديثة مكتملة البنيان والمؤسسات يمكن أن يولد وينهض فوق هذا القديم الذي أسقطته الثورة، لابد أن تتصدر كفاءات جديدة سوف تثبت جدارتها وتقوم بهذا التغيير والتحديث والتطور والبناء لمجتمع الدولة المدنية ، كما أن على القوى القديمة إذا أرادت الاستمرار إلى جانب الطلائع الشابة يجب عليها قبل كل شيء أن تقوم بعملية نقذ ذاتي.. أن تقول بصراحة: أين أخطأت، أين قصرت، أين عجزت.. وماهي الضوابط التي تمنع تكرار أخطاء الماضي؟ إن النقد والنقد الذاتي عملة لها وجهان : الأول أن تعيد قراءة مرحلة ذاتية سابقة، بكل ما فيها من مشاكل ومصاعب وقوى ، وكيف حصلت وكيف تم التعامل معها ، وما أدت إليه من نتائج، هذا أولاً. وثانياً: أن تقوم هذه الكفاءات القديمة بعملية نقد ذاتي جريئة وصريحة لمسيرتها السابقة. أما أن نضرب صفحا عن الماضي ، ونعتبر أنفسنا أننا ابناء المرحلة الجديدة - مرحلة ما بعد الثورة - أو أن الناس ينسون ، أو لا يحتاجون لمن يذكرهم بالمراحل السابقة فإننا بالإضافة لإمكانية واحتمال تكرار الأخطاء نكون كمن يتواطأ مع نفسه ومع الآخرين لتمرير أحداث مرحلة تاريخية بكاملها، وتبرير أخطاء النفس وأخطاء الآخرين، ومن شأن ذلك أن يحول دون قيام الصيغ الجديدة للدولة المدنية الحديثة، وأن يجرد الكفاءات الشابة من المشروعية التي ترشحها للقيام بهذا الدور المستقبلي لبناء الدولة المدنية الحديثة المنشودة . ومن هنا تبرز الأهمية الاستثنائية، خاصة الآن في مرحلة التغيرات العاصفة والعميقة، التي تجتاح الوطن العربي من حولنا، إلى ضرورة التصدي بشجاعة، إلى ممارسة النقد والنقد الذاتي، كخطوات أولى ورئيسة قبل التنطح لمهمات البناء والتحديث والعصرنة. المكلا 20 / 01 / 2013 م أ. د. مبارك قاسم البطاطي