إن قصة تطور السياسة تأتي من كونها أشبه بحالة غريزية لدى الإنسان هدفها التشكل الاجتماعي عنده بدافع الاصرار على البقاء، فبدأت السياسة منذ قيام التجمعات البشرية على الأرض بهدف اتقاء شرور التعرض لهجمات الوحوش المفترسة، أو الاعتداء من قبل تجمعات إنسانية مغايرة وغريبة، أو التعاون من قبل هذه المجموعة أو تلك في تكتل واحد لمواجهة صعوبة ومشقة الحياة التي واجهت الانسان البدائي بوسائله البدائية. لقد نما التماسك الاجتماعي فبدأ بالولاء للأسرة والعشيرة ثم القبيلة يدعمه الخوف من العدو بعمليات بعضها تلقائي وبعضها مقصود الى أن وصل الى التجمعات العريضة التي تمثل الأن الشعوب والامم. عندما تكونت التجمعات البشرية فإن أول ما فكر فيه الإنسان هو إقامة الأمن والرفاهية والعدل والقضاء على الاختلافات التناحرية المهلكة لهذه التجمعات، من أجل ذلك نظمها عبر التشريع. بدأت مثل هذه النظم بالقوانين البابلية في الالفين الاولى قبل الميلاد، ومنها تميز قانون حمورابي بمواد مرتبة وفق منطق علمي وضوابط قانونية حددت مبدأ العقوبة والتعويض ومبدأ حل النزاعات عن طريق التحكيم، وسيادة الجانب الردعي الذي تميز بهيبة القوانين وصرامتها من اجل حماية العائلة المؤسسة نظام الحكم. تطورت المجتمعات في الشعوب والدول وفي الأمم المختلفة وكان الصراع المستمر هو العامل الرئيسي في هذا التطور ومعه تطورت الأنظمة والقوانين التي تحمي الإنسان، بدءً من العصر اليوناني الذي سادت فيه فكرة الديمقراطية ولكنها أفلت لبدائيتها قبل العصر الهيليني، ثم ساد العصر الروماني بقوانينه المشرفة للسياسة لكنه انطفأ لصالح تيارات روحية جديدة، إلى العصور الوسيطة التي سادت فيها السلطة الروحية بقوانينها التي تعتبر الدولة مؤسسة إلهية. يعني تراجعت القوانين المنظمة للعدالة والمساواة أكثر بفعل استغلال السلطة للدين، وصولا الى الفكر الإسلامي العربي المتحرر في بدايته، إلى تطور الفكر السياسي الغربي إبان عصر النهضة والحكم المطلق، إلى عصر التنوير عصر فولتير، ومونتسكيو، وروسو أصحاب فكرة القوانين الأكثر حداثة في القرن الثامن عشر، وأهمها بل أشهرها فلسفة روسو عن مفهوم الدولة والحكومة، الذي اعتبر ان الدولة هي الشخص الذي يعبر عن نفسه أو الحكومة عن نفسها بواسطة الإرادة العامة صاحبة السيادة المطلقة العليا، وفي طبيعة الصراع بين الغناء والفقر الذي دفع بروسو الى صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، بين الحاكم والمحكوم لكي يتحقق الاستقرار الذي اساسه العدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن الشعب وازالة كل اثار العبودية، وبفعل الثورات التحررية في كل مكان من العالم قامت الدول الدستورية الحديثة التي تعتمد الديمقراطية وشعار الحرية والعدالة والمساواة في هذه الدول الحديثة، وحتى بعد ذلك كله اصبحت الديمقراطية تعتمد داخل تلك الدول ولكنها تنتفي في علاقتها مع الغير اذ اعتمدت المصالح فوق الديمقراطية، وتتعامل الدول الديمقراطية والكبرى مع الشعوب المتخلفة ايضا على سياسات مختلفة، منها ابقاء الأوضاع في هذه البلدان على حالها طالما مصالحها آمنة فيها، كما تفعل حاليا الدول الكبرى مع اليمن والتي تفرض وصايتها ووصاية دول الجوار على اليمن لكي تنفذ سياستها بناءً على هذه المصالح، ولذلك فإن اليمن الآن ينفذ باجتهاد وحرص كبير بنود المبادرة الخليجية التي تفرض اعادة الوضع السياسي بشكل توافقي للنظام القديم المتصارع، كما أنها تفرض شكل الدولة وبنيتها السياسية عبر الحوار الوطني الجاري التي تعد مخرجاته وفق ارادة السلطة هنا، لأن السلطة هي التي تمارس السياسة بأسلوبها المعهود والذي تشرف عليه وتخرجه دول الجوار اللدودة صاحبة الوصاية، وبوصاية وهيمنة الدول الراعية الكبرى للمبادرة الخليجية والتي كان من مخرجاتها ايضا مؤتمر الحوار الذي يريد أن يناقش ويحل كل القضايا والمشاكل الداخلية اليمنية خلال ستة اشهر، غير مدركين أن اليمن لم يصل حتى الآن الى ضوابط يستطيع ان يلتزم بها ولو افتراضا، كما التزمت بابل بقوانين حمورابي ولا كما كانت الدولة الساسانية تلتزم بالقانون المقدس، ولابالمُثل اليونانية في فكر مؤسسات الدولة، ولا بالقانون الطبيعي الذي وضعه شيشرون في العصر الروماني، ولم تلتزم اليمن حتى بمقاييس الدولة الدينية في القرون الوسطى. ومع ذلك يناقش مؤتمر الحوار الحالي شكل الدولة وهو سباق متكلف لإحتواء القضية الجنوبية،وشكل الدولة دولتان لو احتكم المتحاورين للمنطق والعقل بعيدا عن العاطفة. في حين أن مشكلة الشعب اليمني تتمثل في بناء الدولة المؤسسية، من أجل ذلك يجب التخلص من ثلاثة عوائق في طريق بناء الدولة وشكلها اثناء مناقشتها في مؤتمر الحوار بجدية وهي: 1 السلطة، والذي لم يستطع مؤتمر الحواران يبلور رؤيته لقيام سلطة حقيقية، ولا أن ينتزعها من هيمنة الأسياد، اصحاب السلطة الروحية والقبلية. 2 التحرر من الوصاية الإقليمية والدولية والتي تظل أياديهم شبه ثابته في الشأن اليمني بحيث تحرك سياسته وفق مصالحهما وخارج الإرادة الشعبية اليمنية. 3 حل القضية الجنوبية حلا عادلا وعلميا وقانونيا وفقا للقانون الدولي ومبدأ العلاقات الدولية. إن الوصاية تلك هي التي أسندت السلطة الحالية بعد قيام الثورة التي تم الاستيلاء عليها، فمنحت هذه الوصاية السلطة الحالية الصفة الشرعية التي ثبتتها بالمبادرة الخارجية، مثل هذه الوصاية لاتريد ان تكون اليمن دولة قوية ولا دولة يحكمها وينظمها الدستور والقوانين النافذه والانظمة والتشريعات الصارمة، بل تريدها تسير بإرادة وتوجيه اللجنة الخاصة،لاتريدها مجتمعا متماسكا، اذا احتربت يوما وسالت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها، بل تريد قبائل وأقيالا، ومشايخ ورعاة، كلها دموع ودماء لامكان لشعور القرابة والإئتلاف، بل تريد كل اليمنيين تحت الوصاية والكفالة وتحت رحمة المن والصدقة. كما انها لاتريد دولتين قويتين بل تريد دولة مترهلة مائعة ومتفسخة، تتحكم بها عبر المشايخ اصحاب الدفع المسبق. ولذلك أصبح تاثير هذه الوصاية مركزا وقويا باعتباره وجه خلفي للسلطة التي تدعمها لتكون سلطة عمياء لاترى ولاتتكلم، وهذه هي طبيعة السلطة الحالية. كون المشكلة الحالية لليمن هي مشكلة السلطة أساسا، هي التي انتجت الحروب، وخلقت الفتن والمذاهب، وهي التي زادت الغني غناء والفقير زادته فقرا، وصنعت من تلك القبيلة حمران العيون ومن تاك الوضيعين وذوي المهن الدنيئة، يعني خلقت المواطنة اللامتساوية. إن السلطة ليست بنية عليا أو مجردة كما كان المفهوم النظري السياسي السابق،لأنها تمارس في خضم علاقات متحركة ولا متكافئة ومباشرة، كما إنها ليست منفصلة عن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسات المعرفية (اي العلم الذي تستغله)، وكذلك الأخلاقية بل هي(محايثة لها) يعني ملازمة لتلك العلاقات، إنها عبارة عن النتائج المباشرة التي تتمخض عن التقسيمات واللاتكافؤات والاختلالات التي تتم في تلك العلاقات، بعضهم يسأل كيف يتم ذلك؟. معناه أن علاقات القوة المتعددة التي تتكون وتعمل في أجهزة الانتاج وفي الأسرة والجماعات الصغيرة والمؤسسات تكون حاملة للانقسامات التي تسري في الجسم الاجتماعي كله. فتعمل قوى الهيمنة على إعادة توزيع تلك المنازعات وتنظيمها وظمها وتوحيدها والتحكم بها فتخلق التفاوت والقهر من خلالها، وما حدث ويحدث في الجنوب، والقضية الجنوبية ليست عنا ببعيد. يعني أن السلطة لاتظهر في المستوى السياسي فقط بل توجد في كل المستويات، ولهذا فالسلطة الحالية ليس ضمانها الحرية والديمقراطية وصناديق الاقتراع بل ضمانها المبادرة الخليجية والتوافق لفرض نفسها بالقوة وبالهيمنة الخارجية. أخيرا نصل إلى مفصل هام يعري السلطة ويكشف ألاعيبها وتضليلها فلا تستطيع منه الفكاك بعد انكشاف امرها، وهو استمرارها في فرض القوة لتثبيت الوحدة.هذه السلطة برموزها دمرت وأنهت الوحدة، ولا زال ياخذها العزة بالإثم من الاعتراف بذلك بل تعتبر الوحدة منتجا للإستهلاك والترف يجب الحفاظ عليه بالقوة، ولأن مصالح الأوصياء تتقاطع مع هذا التوجه، وهم يعلمون بأن الوحدة لاتتم إلاّ عن طريق التراضي والاقتناع، كما يعلمون أنهم لن يستطيعوا أن يحكموا بغير الديمقراطية، وهذه الديمقراطية هي التي تحسم الخلاف في تثبيت الوحدة أو عودة الدولة الجنوبية إلى وضعها السابق، فلا أحد ينوب عن الشعب الجنوبي في إضفاء شرعية رفض أو قبول تعامله المستقبلي أمام صناديق الاقتراع أومع الحياة المؤسسية والعملية للدولة. وفي وضع الوحدة اليمنية لاندري ماهي طرق الإقناع والوصول الى رضى الشعب الجنوبي حتى يتم تثبيت الوحدة، مع أن الممارسات السلطوية لازالت تسير عكس سلوك الوحدة، وأن الوجوه التي قتلت الوحدة هي نفسها لم تتغير، إنها سلطة برموز ألفت الواقع وروضت المجتمع على نهجها، فأرادت ممارسته على شعب الجنوب فزادته نفورا واستنفارا،لأن سبلها ودروبها في الماضي القريب والبعيد معبدة بالدماء وبالمحن والفتن والاستبداد والظلم والقهر والاذلال للأنسان. والله على مانقول شهيد صالح محمد مسعد(أبو أمجد) 6/9/2013م