يلعب مركز الثقل السياسي العربي دورا هاما في القضايا العربية، كما تتأثر الدول العربية وتوجهاتها السياسية ومشكلاتها الداخلية نسبيا بدول المركز الرئيسي هذا، وهي غالبا الدول الكبرى، ولابد أن هذا التأثير ينعكس على الدول العربية وفقا للتقارب والتوافق أو التعارض والتصادم بين دول مركز الثقل نفسها، فعملية الطرد والجذب العربية غائرة في القدم لكنها أكثر بروزا بعد ظهور الدين الإسلامي وتوسع الإمبراطورية الإسلامية وانتشارها في مساحات أفقية واسعة من العالم. وقد ولّد هذا التوسع تناقض دول المركز مما أدى إلى انهيار الإمبراطورية الإسلامية بانهيار المقومات الموضوعية للحضارة العربية، بعد تراجع الفعل والتأثير الديني عن كونه مصدر إلهام وحافزا على العطاء في المجال الفكري والتقدم العلمي في مختلف المجالات، بعد أن صادرت السياسة بكثير من التعصب الموقف الديني لصالحها، فبدأت الخلافات تعصف بدول مركز الثقل العربي وتنتقل أحيانا من كتلة حيوية إلى أخرى أكبر منها. فمنذ ظهور الإسلام كانت دولة المدينة وهي مهبط الوحي، تمثل مركز الثقل العربي السياسي والديني ولمدة نصف قرن من الزمن، ولكن تحرك عناصر الثقل إلى المواقع الجغرافية الأنسب اقتصاديا وتحركها مع الكتل البشرية الأوفر لدعمها قد أسند فكرة تحرك هذا المركز تحت غطاء العمود الديني، حيث انتقل من المدينةالمنورة إلى الشام في فترة الحكم الأموي واستمر ما يقارب قرن من الزمن، ثم تحرك مركز الثقل الديني والسياسي بعناصره إلى بغداد كموطن للخلافة العربية الثانية في الخلافة العباسية الأولى باعتبارها مركزا اقتصاديا لكتلة حيوية ومحورا دينيا مذهبيا، فكانت اللاعب الأساسي في الشأن السياسي العالمي لمدة تقارب القرنين من الزمن، وهي أزهى عصور الخلافة وأكثرها نضوجا معرفيا وثقافيا، وبلغت أعلى درجات التطور العلمي والأدبي بفعل توجهها الحضاري القائم على التسامح والتعايش والتلاقح الثقافي مع العالم خاصة بعد تأسيس دار الحكمة في نهاية القرن الثاني الهجري في عهد المأمون، حيث بدأت بالترجمة وضمت إليها كل دور العلم والنشر ومركز الالتقاء بين كل البشر على جامع واحد هو العلم كمركز إشعاع فكري والذي استهواه الجميع من كل سكان الأرض حينها، ولكن العمود الديني الذي اتجه مذهبيا في بداية الخلافة الثانية انتقل إلى القاهرة لاستكمال شبح الخلافة العباسية التي سقطت في بغداد واستمر ما يقارب القرنين والنصف. وتوزعت الأدوار المنطلقة من العمود الديني إلى أكثر البلدان العربية والإسلامية، فتكونت وانتشرت حالات من دوائر الطرد والجذب المركزي في داخل هذه البلدان بالارتباط مع البلدان الكبرى الرئيسية المتوافقة على فعل التأثير على بقية البلدان العرية، لكن التباين كان سيد الموقف في أغلب مراحل التاريخ. إذ أن توافقها تحت العمود الديني لمحور الارتكاز في التأثير السياسي خاصة على بقية الدول العربية، لم يستمر إلا في الفترة الأولى من القرون الثلاثة بعد ظهور الإسلام، وهي مرحلة الصفاء والتسامح الديني الذي مال إلى التشوه والمبالغة والغلو والإفراط باستخدام الدين لصالح السياسة، وبدورها السياسة نفسها دفعت إلى فعل المبالغة القصوى لصالح إسنادها واحتمائها بالدين، كي تبرر قوتها وتفرض هيمنتها لتحقيق أهدافها باسم الدين، وهي بالتالي مصالح القلة المتأسلمة والمتذرعة بالدين، وفي كثير من الحالات كان الدعاة وعلماء الدين جزءا من هذه القلة التي تحركها المصالح، نتيجة لربطهم وأسرهم اقتصاديا بدائرة البلاط (الملك) أو من أجل الشهرة مع القصر أو مركز الحكم، وهي لا تستطيع أن تكون خارج هذه الدائرة إلا في أسوأ الحالات. فلم يشذ عن ذلك سوى القلة من العلماء الذين عانوا وضحوا من أجل سماحة وأهداف ومبادئ الدين. استمر مركز الثقل العربي كقوة جاذبة مركزية التأثير على المحيط العربي، وبقي يقاوم العدوان المتربص بالإسلام والمسلمين، حيث مثل قوة الطرد المركزي ضد الصليبيين والتتار، إلى أن استسلمت هذه القوة للدولة العثمانية الصاعدة التي كانت قوية نوعا ما في بداية القرن السادس عشر مع بداية اختراع البارود واستخدام السلاح الناري، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير وذلك بضعف الدول الإسلامية وتنافر وتشتت مركز الثقل العربي الإسلامي حينها، ولبست الدولة العثمانية نفس اللباس المتدثر بغطاء الدين لتحمل اسم دولة الخلافة وتحت اسم المظلة الجامعة للأمتين العربية والإسلامية..أتى ذلك عندما كانت طاقة إبداع الحضارة العربية قد استنزفت، وكان النموذج المعرفي والعلمي الصوري الذي قامت وتوسعت في كنفه، وارتكزت عليه هذه الحضارة، قد أشرف على الأفول. في الوقت الذي بدأ فيه الغرب في حركة الكشوف الجغرافية التي أخذت بالتوسع بعد أن أرتوت من علوم العرب ومانقلوه وماطوروه من اليونانيين في الفلسفة والعلوم لمختلفة، ثم قاموا ببنائه على قواعد أصيلة أرسيت عليها مبدأ البحث العلمي واكتشاف القوانين، وإجراء التجارب على ضوء الملاحظة والاستقراء إلى الاستنتاج.. أمام هذا الاكتساح بقيام النهضة الأوروبية، كانت الأمة العربية تتراجع والغرب يبحث عن الجديد وعن المصالح، واستعمر العرب وهم يتحاورون على الدين كيف له أن يكون فوق السياسة وفوق المعرفة والتطور، مع أن السياسة الغربية قد اتخذت مجراها بعيدا عن الدين، وأخذت بعدا علميا ومعرفيا لمقاومة الأمة العربية بسياسة فرق تسد، واستخدام الدين الإسلامي لتفتيت عضد الأمة العربية وتمزيق لحمتها وإرساء تخلفها، وجعلوا من قوة الطرد المركزية قوى طرد فرعية صغرى في داخل الدول العربية تتبع قوى جذب مركز الثقل، وشكلت قوى جديدة متباينة كأطراف مذهبية متناحرة، مع أن الجميع يشهد أن لاإله إلاالله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميعهم يصلون خمسا ويشهدون بالإلوهية والربوبية الواحدة لله. لكن السياسة عندما دخلت في الدين جعلت منه أديانا مختلفة وكثر التعصب والفتن وزاد التناحر،وضن كل فريق أنه على الصواب الذي لايحتمل الخطأ، وصادر كل طرف الدين وادعى حوله التفويض وامتلاك الحقيقة فيه. وهكذا صار العرب شيعا وأحزابا وفئات وطوائف ومذاهب متناحرة. في السياق العربي الإسلامي كانت الكتل الحيوية البشرية والعوامل الجغرافية والاقتصادية والدينية هي التي تحرك مركز التأثير العربي حينما كانت جميع تلك العوامل متناغمة أولا بذاتها، وثانيا عندما استندت إلى تناغم الدول العربية الكبرى مع بعضها والتي تمتلك الخصوصيات والمقومات المذكورة لتكون مركز القرار والتأثير، حيث استمر هذا التعاقب بين مراكز القيادة العربية داخل المحور الرباعي(المدينةالمنورة،ودمشق،وبغداد،والقاهرة)وصولا إلى القرن العشرين عندما كانت قيادة هذه البلدان تتوافق على العمل معا كمحور إستراتيجي وخضوعا لمبدأ التكامل السياسي في الموقف، إلا أن المحاور الجديدة المتولدة عنها داخل البلدان العربية كانت سببا آخر لزيادة الاختلاف وبداية الصراع الجديد. ففي نهاية العقد الثالث من القرن العشرين برز الإخوان المسلمون كقوة صراع جديدة انتشرت إلى مختلف البلدان العربية، وأبرز الصراع الاقتصادي في المنطقة والإقليم إلى إحياء النزعة المناوئة للإخوان مع بداية الثورة الإيرانية بنهاية العقد السابع من القرن العشرين، هذا الصراع المذهبي أدى إلى خروج أحد المحاور من المركز الرئيسي بعد احتلاله للكويت، وهو العراق والذي أدخل بعدها في مزاعم الأسلحة الكيماوية وصولا إلى الاحتلال الأمريكي له، وهاهو العراق يتفتت نتيجة سياسة الغرب في الاحتواء لجبهات الصد والممانعة. ويبقي لدينا في مركز الثقل(محور المدينةدمشقالقاهرة)،الذي استطاع من حفظ التوازن العربي نوعا ما، لكن التأثير ظل ينتقل إلى المراكز الصغرى بين الدول العربية واستمر المركز أعلاه في الصمود والتأثير طيلة العقدين الماضيين بعد خروج العراق منه، إلى أن اختل التوازن في النظام العربي خلال السنوات الخمس الماضية وازداد أكثر منذ ثورات مايسمى بالربيع العربي، لكن التأثير الديني انتقل من المركز إلى حدود الدولة القومية، وبدأ يتناسج ليحل كقوة تأثير رئيسية في النظام العربي مثّل الاتجاه الديني الحالي في النظام العربي، لهذا حتما سيفقد توازنه لأنه لم يعتمد على المقومات المتناغمة التي تعطيه القدرة على الاستمرار، وسيكون الموقف العربي المتآكل من الداخل موقفا ضعيفا لايستطيع الصمود أمام أية هجمة أو تأثير غربي أو أجنبي عليه. فكان هذا التشتت والتمزق والتناحر الذي وصل إليه العرب يخرج دول المركز من الدائرة واحدة تلو الأخرى، وهاهو المحور الثاني من مركز الثقل العربي يخرج عن إطاره والمتمثل حاليا بدمشق، إلى أن يأتي الدور على المحورين المتبقيين(محور المدينةوالقاهرة)،لتكون النتيجة بديلا أو محاور داخلية تفتت كيان الأمة لأنها لاتمتلك مقومات التكامل الاقتصادي والجغرافي والبشري والديني، بعد أن انسلخت هذه الأطراف بمقوم واحد هو الدين الذي اعتبروه فوق السياسة وضد كل المقومات الطبيعية التي تسند قوته. ومايجري حاليا في المنطقة من صراع داخل البلدان العربية باسم المذهبية والدين هو التشظي والتمزق لمركز الثقل العربي وما يحدث في سوريا وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن حاليا هو الانسلاخ الكلي لمقومات قيام أية حضارة أو تقدم يخدم بلداننا العربية، بل يمثل مخاصمة أقحم فيها الدين تجاه أي مفهوم حداثي أو طريق جديد أو أي تطور على المدى المتوسط والقريب، وما يحدث في دماج اليوم يعتبر مثالا لذلك المأزق الذي وصل إليه الانسداد العربي واليمني خصوصا والذي يمثل أسو أنواع التناحر في الداخل والمفضي إلى العودة للوراء والتراجع عن قيام أية نهضة قادمة. وما يحز في النفس أن تستهدف المحافظات الجنوبية للحشد والأسلمة باسم الدفاع عن الدين بالقتل وسفك الدماء والدفع بمثل هؤلاء الشباب الجنوبيين إلى دماج من أجل تصفية حسابات ومصالح اقتصادية بين أطراف متناحرة، في حين أن مثل هؤلاء الشباب لا يعرفون ماهي السياسة ولا ماهو الجهاد ولا إلى أين يذهبون، كل ذلك يعني تنفيذ أهداف للقوى المتصارعة بأن يكون هؤلاء الشباب وقود وحدة مزعومة يظللها الإرهاب والتكفير والادعاء بسيرة السلف الصالح، ونحن لانزال بعيدين حتى عن هوية الدولة القومية واستقلاليتها ومبدأ التضامن العربي في مشروعها الحالي والمستقبلي ناهيك عن وحدة شمولية تكمن وراءها المصالح تحت ستار الدين. والله ولي التوفيق صالح محمد مسعد(أبوأمجد) 23/11/2013م