كثر الحديث عن تفاقم الخلافات العربية قبل أن يلتئم شمل القمة العربية العشرين في دمشق لدرجة أن البعض من المحللين العرب والأجانب اقتربوا من توقع فشلها، ووصفوها ب «قمة الخلافات العربية» وزاد أكاديمي إسرائيلي بأنها «جثة هامدة». وصدرت أقوال كل هؤلاء من فرضية ملتبسة تخلط بعضاً من الوقائع الصحيحة بأخرى افتراضية مأمولة من وجهة نظرهم. ولجهة الوقائع الصحيحة والماثلة للعيان انطلقت قمة دمشق أمس وسط أجواء خلافية بين أقطاب النظام الإقليمي العربي.. انعكست في غياب زعيمي مصر والسعودية، ومعهم سبعة رؤساء وملوك آخرين ومقاطعة دولة واحدة هي لبنان الذي تعصف به اخطر عملية انقسام داخلي بين قوى الموالاة (14 آذار) والممانعة (المعارضة). على أن هذا يمثل نصف الحقيقة أو النصف الفارغ من الكوب، فيما يتجنب هؤلاء من أصحاب أطروحة الفشل النظر إلى النصف الآخر المتمثل في حضور 18 وزير خارجية عربياً في الاجتماعات التحضيرية وهو أعلى مشاركة في القمم الأخيرة فضلاً عن مشاركة 21 دولة مع اختلاف مستوى التمثيل سواء بمندوب دائم أو وزير دولة أو نائب رئيس. ويتضاءل قدر أطروحة الفشل وتضخيم الخلافات العربية وحصرها في قمة دمشق، في سياق البيئة الإقليمية والدولية التي رافقت التحضير للقمة، فمن جهة جاء الدور الأميركي المحرض سراً وجهراً على مقاطعة العرب للقمة، سواء جاء التحريض بمفردات دبلوماسية مثل حث العرب على التريث، أو علناً باتهام سوريا بدعم ما تعتبره الإدارة الأميركية «إرهاباً» في فلسطين (المقاومة) ولبنان (حزب الله). ومن الظاهر للعيان أن التحريض الأميركي له دوافعه ومبرراته، فواشنطن تسعى لتوسيع إطار عزل سوريا وإقرار قانون محاسبتها بحيث يتم تعبيد الأرض لتمرير مشروعها الخاص في المنطقة والذي تعثر وكاد أن يجهض على أرض الحرب الإسرائيلية في لبنان 2006، وأسهم المشهد العراقي في وقف تقدمه. من جهة أخرى، انضم الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي والمفوض السياسي الأوروبي خافيير سولانا إلى جوقة التحريض على مقاطعة القمة. يرتبط بأجواء الخلافات الإشارة إلى ربط مسار القمة بانجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني، حيث فشل النواب اللبنانيون 17 مرة في انتخاب رئيس توافقي هو العماد ميشال سليمان قائد الجيش، بسبب حالة الانقسام الحاد، وتبادل الاتهامات بين الممانعة والموالاة، بالولاء والتبعية إما لسوريا وإيران أو لواشنطن. وان كان ما سبق يدور في فلك الطارئ من الخلافات العربية فإنه على ضفة التاريخ، يتضح أن ما جرى في قمة دمشق ليس استثناء، بل هو تعبير عن حدث متكرر ومزمن تشهده القمم العربية منذ بدء آلية القمة بعد تأسيس الجامعة العربية كبيت لكل العرب ومؤسسة ترعى العمل العربي المشترك، وان كانت الخلافات التي عصفت بكثير من القمم العربية تراوحت بين مد وجزر بين مقاطعة جزئية أو انقسام حاد. وفي حالة استثنائية وقف النظام العربي على حافة الانهيار بعد مؤتمر قمة بغداد (2 -5 نوفمبر 1978) والتي تقر فيها طرد مصر من الجامعة العربية ونقل المقر الرئيسي من القاهرة إلى تونس رداً على قرار الانخراط في صلح منفرد مع إسرائيل في سابقة لم تسفر إلا عن شلل العمل العربي المشترك، وأشعلت النزعات القطرية والتشكيك في عروبة مصر من جانب قوى وشخصيات حزبية مصرية وأخرى في بعض الدول العربية التي ظنت أن طرد مصر يفسح لها المجال لتسلم مقاليد الريادة، وهو ظن سيء لم يؤد إلا إلى المزيد من الخيبات العربية. في هذا السياق الخلافي يجب أن نعرج على أمثلة أخرى منها بروز خلاف على خلفية مذابح أيلول الأسود للفلسطينيين في الأردن عام 1970، ودعوة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إلى قمة طارئة في القاهرة نجحت في حقن الدماء، وإنقاذ الزعيم الراحل ياسر عرفات من موت محقق قبل أن يسلم عبد الناصر الروح في 28 سبتمبر. وفي قمة عمان ( 25 -27 نوفمبر 1980) لدعم العراق في حربه ضد إيران والتي كانت تصفق لها الإدارة الأميركية وتعمل على إذكاء نيرانها قاطعها أربع دول عربية ( فلسطين- سوريا الجزائر- لبنان)، وأدت إلى اندلاع حرب سياسية ضروس بين دمشق وبغداد وانقسام حزب البعث وتغيير مواثيقه وأدبياته وانتقال مؤسسه ميشيل عفلق للإقامة في بغداد نهائياً حتى وفاته. على أن الخلافات العربية شهدت مداً تجسد في انقسام حاد عصف بالعمل العربي المشترك ووضع الرابطة القومية في مأزق وجودي، اثر الغزو العراقي للكويت، وفي قمة القاهرة ( 9-10 أغسطس 1990 ) حيث لم توافق سوى 12 دولة عربية من جملة 22 دولة على مطالبة العراق بالانسحاب، ونشر قوات في السعودية، وتلا ذلك تأسيس إعلان دمشق كحلف جديد بين كل من مصر وسوريا من جهة ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى، أو ما عرف بحلف( 6 زائد 2 ) وهو الإعلان الذي لم يصمد كثيراً في وجه التحديات الخارجية. ومات في صمت دون تشييع رسمي. يضاف إلى ذلك ما شهدته قمة شرم الشيخ في مصر في أول مارس 2003 من تلاسن حاد بين الزعيم الليبي معمر القذافي والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز( ولي العهد وقتها) والذي أدى إلى تفاقم الخلاف بين البلدين قبل أن يتم تسويتها لاحقاً. الخلاصة، أن الخلافات بين الدول العربية مزمنة، ويتم احتواؤها دورياً دون أن تخرج عن سياقها، وهي تعبير عن تناقض بين الطابع القطري والانتماء العربي من جهة، والتدخل الخارجي في منطقتنا منذ ترسيم حدودنا بعد هزيمة الثورة العربية في العشرينات من القرن الماضي، وسقوط «الفرس العربية الشهباء» على طاولة التقسيم البريطاني الفرنسي (سايكس- بيكو)، وهو ما يتجدد حالياً عبر الدور الأميركي. في وضع كهذا، تصبح ضرورة ملحة تأسيس آلية عربية داخل الجامعة لتذويب الخلافات وتسويتها داخلياً، واحتوائها قبل أن تتفاقم، وتقف مانعاً ضد أي محاولة خارجية لأن البديل سيكون أقسى من قدرة أية دولة عربية على احتماله حتى في ضوء المصلحة القطرية البحتة. (البيان)