إن كانت الحضارة تعبيرا عن استقرار البناء في عمق المكان، وإن كانت المدينة وجه الاستقرار ضمن التطورات الزمنية عبر الأمكنة، وإن كان التاريخ عملة الخلود التي تتداولها الانتماءات التراثية لتلك الأمكنة بل والهوية الجذرية لتعميق الصلة بالعمق المكاني، فأين نحن من جذورنا؟. ثم إلى أي مدى يغدو الإعلام حقلا للسحرة في ساحات فرعونية يتبارى فيها المتبارون على عصي متنكرة بأفاع ليست غير سياط فضائية لا يتشبه الثعابين سوى بما تبثه من سموم في جلد تماسيح ورثت علم التحنيط أمام شاشات معلقة على أعناق مشانق منصوبة في بلاط فقهاء أصابهم مس الدجالين؟ لست أدري حتى هذه اللحظة إن كان تم افتتاح قناة متخصصة بتاريخ المدن العربية أم لا؟ فإن كان تم ذلك فليفدني القارئ الكريم من أي قمر أستطيع التقاط التاريخ، أقصد طبعا 'القناة'؟ على حد علمي إلى الآن لا توجد قناة واحدة استطاعت أن تنفرد بتاريخ الحضارات القديمة التي مثلتها مدن تاريخية ضربت أوتادها في اعماق الصحارى العربية على امتداد الخارطة الزمنية، فأي عار؟ أعلم أن هنالك فضائيات تعمل على تبني برامج توثيقية أو وثائقية تتناول بين فينة وأخرى هذا النوع من العروض، التي تتنقل بين القنوات كسلعة تجارية لا اكثر، إلا أن ما أقصده تحديدا هو تخصيص قناة واحدة فقط من أصل 'كم مية قناة' تعمل على توطيد صلة المدينة العربية الحديثة بالمدينة العربية القديمة، قناة واحدة لا أكثر تستعرض آلية تعمير المدن العربية القديمة وطرازها المعماري، وجينها الحجري، وزخرفاتها، أدواتها، مساحاتها، ملامحها العامة او تلك الخاصة جدا، سكانها الأصليين، ثم وأهم المهم عمرها الزمني . ما يدفعني إلى إثارة تلك الأسئلة هو خبر الإنذارات التي وجهتها حكومة الاحتلال ل 88 عائلة مقدسية لهجر منازلهم التي تم بناؤها بلا تصاريح رسمية، وسبب التهجير هو بناء حديقة أم مدينة ملاه أو غيره للمستوطنين الاسرائيليين في ذات المنطقة. إنه طوفان لن يتوقف مده سوى باستنهاض الحق التاريخي بالمكان، وهذا الحق لا يمكن ان يتم الحصول عليه من خلال تصاريح زائفة تنتمي إلى دولة لقيطة تم انتشالها من على رصيف مشرد لا وطن له إلا 'الفيتو'! أي تهجير وتوطين ذلك الذي يلحق بالتاريخ تشويها جغرافيا، ومعماريا، إذ يثير الخلل في الركن المعماري للأحياء القديمة والتجمعات السكانية التي عبرت عن انتمائها للمكان من خلال أسلوب السكن والاستقرار. عندما تدرج اليونيسكو حلب على لائحة التراث الحضاري العالمي، وتعد أريحا أقدم مدن العالم التي شقت فيها قنوات المياه منذ العصور الحجرية، ثم مدينة 'منفيس' أول عاصمة لمصر وبالقرب منها تقع المقابر الملكية، وأوروك الغارقة في حرب الطوائف، وسبأ وغيرها كلها إرث هائل من الحضارات التي عرفت البناء والتعمير والسكن لما يكون البيت دلالة على طمأنينة وانتماء إلى حق أقول لما يكون لدينا كل ذاك ونحن في زمن الصورة هي لسانه الموحد، كيف لا نوظف إمكانياتنا وطاقاتنا في سبيل عرض تاريخنا وتراثنا الذي يحج إليه أبناء المعمورة من أقصى أقصاها ليلتقطوا له صورة للذكرى؟. أين فضاؤنا السابح في ملكوت الغرق بزعانف مستوردة؟ أنحتاج في هذه أيضا إلى طواقم أركيولوجية يتم تصديرها إلينا كي تدلنا على عمقنا التاريخي؟. وماذا لوعلمتم أن اسرائيل أوقفت حملات أوروبية وأمريكية استكشافية في مدينة سبأ اليمنية، بل إن بعض المصادر تفيد بمصادرتها للمخطوطات والصور التي تم التقاطها عبر الساتلايت؟ فأي زمن سينصفنا؟ وأي زمن سيدحرنا؟ وأي زمن سيتنكر لنا؟ ثم أي زمن سيعترف بنا ونحن لا نؤدي فروض الولاء لأي زمن؟. هل حروبنا القادمة هي تلك التي سنخوضها مع الزمن ؟ بحيث يخرج المكان من دائرة الصراع ليتخذ الزمن موقعه على خارطة الإبادة؟ إنها حرب أزمنة منذ الأزل ولم تزل ! حكاية السجين الرقم كل شيء يمحى، الذات، الذاكرة، الوقت، كل شيء يتحول إلى كذبة، فما هو خارج القضبان مدار وهمي لايمكن إدراكه ولا حتى بالمخيلة، ما هو خلف تلك الاقفاص المعدنية ليس سوى مدى مستحيل، فالحقيقة الوحيدة هي السجن فقط، لأن السجن ليس سوى غوانتانامو ! سامي الحاج ليس روائيا ولا مراسل قناة فضائية، ولا زائرا، ولا مصورا، ولا حتى ضحية، إنما هو متذكر فقط، علاقته بالحكاية هي علاقة الاستعادة لذاكرة متأججة بالألم، انظر إلى انفصاله التام عن لحظة وجوده في الاستوديو، إلى عينيه، صوته، نبرته، جموده، ذهوله، ترى القضبان وصوت المافيا جندها كلاب مسعورة، وقهقهات لعاهرات برتب عسكرية، وتستشعر برد الجسد في رعشات الذاكرة وهي تتقطر لاهثة كي لا تضيع في الحكاية ! سامي الحاج ينتشل ذاكرته من عين الكاميرا وهي ترصد صورا لم يتم تحميضها سوى في خلايا دماغية تحتفظ بجهاز تصوير مختلف، لم يعتمد على العين بقدر ما أسعفته عدسة مغمضة العينين باقتناص ذاكرة معتمة من مقبرة هي منفى للزمن، لأنها اللامكان. ولكن هنالك تساؤلاً لا أملك سوى طرحه : هل هذه هي الحكاية؟. أعني ليس ما يهم الحقيقة هو الحكاية وحدها بل ما وراء الحكاية، فأين الماوراء؟. هل تكفي الحقيقة وحدها يا محمد كريشان؟ أليس هنالك متسع لرواية أخرى؟ تلك التي لا تقف امام الكاميرا كونها شاهد عيان، بقدر ما تغوص إلى أعماق ذاكرة مضطربة تخزن مشاعر تفوق في واقع الامر أهمية الحقيقة؟. هل من المعقول ان يكون الأمر مقصودا؟ يعني لم يتم تسليط الضوء على الخوف، القلق، الحنين، الضياع، الأمل، اليأس، التحدي، وإن كان تم ذلك ففي سياق الحقيقة، بحيث تصبح رواية الانفعالات هامشاً جانبياً يتسلل إلى المتن الرئيسي بشكل عابر لا يفي ذاته حقها!. حنان ترك ليس من قبيل التعصب للمرأة على الرجل أخصص هذه الفسحة غالبا لأتناول بها تميزا إعلاميا أو فنيا لامرأة، بل من قبيل الوفاء إلى النماذج النسائية الراقية والانتماء إليها، لأن المرأة في المشهد الإعلامي والمشهد الفني هي 'الدينمو' الحقيقي الذي إما أن يشل الإبداع إذ تنتكس طاقاته كلما تخلى عن جوهره وبالغ بمظهره، وإما أن يشعل جذوته وهو يرتكز إلى أخلاق المهنة ودلالاتها العظيمة ثم أهدافها التي تسمو به إذ يسمو هو بها. حنان ترك تعود إلى الأضواء بعد غياب 3 سنوات، وحسب ما صرحت به فإنها تعود بشوق وحنين إلى العمل الفني ضمن مسلسل ثالث بعد 'سارة، وأولاد الشوارع' ترددت كثيرا في كتابة هذه الفقرة لأن لتلك الفنانة خصوصية وشفافية قد لا تشبهها فيها فنانة اخرى من بنات جيلها، إنها الفنانة الإنسانة، وهذه معادلة يصعب تحقيقها في هذه المجال، إذ كثيرا ما يغدو الفنان وحشا كاسرا يلتهم الإنسان ولا يبقي منه أحدا، فالتنافس والغيرة والأحقاد، وغيرها أمراض يكشف الفن عوراتها ويؤججها، رغم أنه من المفروض أن يداويها، بصفته أسلوباً علاجياً راقياً من كدر الحياة ومنغصاتها . ولكن على ما يبدو أنه سلاح ذو حد واحد، حد فتاك، فتاك فقط، للأسف. ربما عانت حنان ترك من شراسة الفن ومخالبه، وربما حاربته بطريقتها الخاصة وخيارها الشخصي،ربما وجدت في الحجاب سلاحا من نوع آخر تردع به قسوة الفن في الفنان كي لاتخسر الإنسان داخلها. مهما كانت وجهة نظرها او معتقداتها ومهما اختلفت او اتفقت مع اتجاهات مثيلة لم تعكس سوى صرعات او ظاهرة سرعان ما تلاشى بريقها، الا انني احيي بحنان ترك ايمانها، فلم يكن من السهل ابدا على فنانة تتربع على عرش القمة في السينما المعاصرة ان تتخلى عن مجدها، كثيرا ما اقول خسارة هذه الفنانة اعتزلت بسرعة كان من الممكن ان تبقى وتصمد اكثر، في ظل التطور الذي تشهده السينما مؤخرا، إلا أن قرارها في ظل تلك الظروف تحديدا يعزز احترامي لها فما أصعب مجاهدة النفس، محاربة المجد، التنازل عن عروش ذهبية وأوسمة من يا قوت خلاب. وهذا وحده يكفي لأن تقول لها أغبطك على كل هذا الإيمان الذي يغالب المجد فيغلبه بنفس رضية. القدس العربي شاعرة وكاتبة فلسطينية لندن