ما يمكن سوقه من مبرّرات ومسوّغات شعبية عربية لتغيير أو إقالة أو إسقاط الحكومات العربية كثير موفور ويطول تعداده ، لكن ما يمكن سوقه في المقابل من مبرّرات ومسوّغات شعبية عربية لمحاسبة أو إسقاط رموز قوى المعارضة العربية متوارْ أو مسكوت عنه أو مؤجل رغم انه كثير وموفور ويطول تعداده أيضاً، ولعل أبرز هذه المبرّرات والمسوّغات يتمثل في عجز هذه المعارضة عند توقع انفجار المد الشعبي العربي كمّاً ونوعاً وتاريخاً وفي عجزها عن المبادرة لقيادة هذا المد والاكتفاء بدلاً من ذلك بركوب موجاته املاً في الوصول عبر أيام أواسابيع إلى ما عجزت هذه المعارضة عن إحرازه في سنوات وعقود. كما تتمثل في التطابق الذي يكاد يكون تاماً بين قياداتها الأبوية وقيادات الحكومات العربية من حيث التشبث بالزعامة لعقدين أو ثلاثة أو أربعة عقود وقمع معظم المحاولات الإصلاحية التي قادها الإصلاحيون والشباب في صفوف هذه المعارضة بدعوى الحرص على النقاء السياسي والثوري والتحذير من التماهي مع الأنظمة العربية - مع أنها فعلياً ونظرياً جزء لا يتجزّأ من هذه الأنظمة - وتحرّزاً من انكشاف الفقر المدقع الذي يعاني منه معظم رموز هذه المعارضة على صعيد مواكبة روح العصر أو امتلاك مفاهيم وأدوات التغيير في القرن الحادي والعشرين. في مصر مثلاً ، وعلى الرغم من أن الحركات الشبابية لم تفلح حتى الآن في إطلاع قيادات فكرية مرموقة فيما نجحت في إبراز قيادات ميدانية لامعة ، إلا أن رموز هذه الحركات الشبابية لم يدّخروا وسعاً لتعرية التواطؤ والتناغم الضمني الذي رسم علاقة معظم رموز احزاب المعارضة مع النظام المصري السابق إلى الحد الذي تبين معه وجود علاقات مالية فاضحة وإلى الحد الذي لم تتردد معه كوادر حزب التجمع في المطالبة بمحاسبة وإسقاط الدكتور رفعت السعيد - وهو من هو تاريخاً ودوراً وفكراً - في ضوء السلبية العدمية التي وسمت مواقفه قبل اندلاع الثورة وفي ضوء التراخي غير المبرر الذي وسم مواقفه خلال الثورة وبعد انتصارها. في تونس أيضاً ، كان يمكن لاحزاب المعارضة أن تفرغ الثورة من مضمونها الحقيقي جرّاء تهافت بعضها على المشاركة في الحكم أوجرّاء تشدّد بعضها في التعبير عن الاستمرار في المعارضة لأسباب دعائية شعبوية ، لو لم يبادر شباب ثورة الياسمين للضغط باتجاه تشكيل حكومة ثالثة مكونة من المستقلين والتكنوقراط وبعيدة عن رموز العهد البائد أو رموز أحزاب المعارضة التي لم تنجح في إخفاء حساباتها الفئوية الضيقة. في اليمن كذلك ، ورغم أن ظروف التغيير تراكمت وما زالت تتراكم منذ سنتين ، إلا أن أحزاب المعارضة المنضوية تحت لواء (اللقاء المشترك) لم تفطن إلى أن وقت الحسم قد حان إلا بعد أن سقط 52 شهيداً في يوم واحد وإلا بعد أن أدركت أن التراجع لم يعد وارداً فقررت الالتحاق بجموع المتظاهرين المعتصمين تاركةً الباب مفتوحاً للتساؤل عمّا يمكن أن يميّزها أخلاقيّاً وسياسياً عن عشرات المسؤولين والإعلاميين والدبلوماسيين ورجال الدين اليمنيين الذين أعلنوا استقالاتهم من مواقعهم الرسمية ومن عضوية الحزب الحاكم والتحقوا بصفوف المتظاهرين القادمين من الجامعات والمدارس والقبائل. ما نريد أن نقوله تحديداً في هذا المقال يتلخّص في اعتقادنا بأن قوى المعارضة العربية ، فضلاً عن أنها أخفقت في الاستجابة أو المبادرة لإجراء حوارات طويلة المدى مع الأنظمة العربية لأسباب شعبوية في المقام الأول ، فإنها قد أضافت إلى هذا الإخفاق إخفاقين فادحين آخرين: الأول يتمثل في انعدام القدرة على التقاط إيقاع الشارع العربي والتقدم لقيادته وعقلنة اندفاعه وجموحه والثاني يتمثل في تغليب المواقف الإعلامية والدعائية على دواعي المصلحة الوطنية العليا التي تقضي بضرورة الإنخراط في الحوار على قاعدة خذ ثم طالب وليس على قاعدة لن آخذ وسأظل أطالب، خاصة أن أحصنة طروادة تقف بالمرصاد وتنتظر انفتاح الثغرة المناسبة كي ترمح طويلاً في ربوعنا باسم التعاطف مع المدنيين وحماية حقوق الانسان ، فهل يتجاوز آباء المعارضة وبطاركتها عقليّة الوصاية وآليات التفكير الاستعراضي في هذا المفصل التاريخي والحاسم أم أنهم سينتظرون حتى يرشقوا بالحجارة ذاتها التي أصابت (البرادعي) رفضاً من الناس والشارع لكل من تجرّأ على ركوب الموجة وحلم بأن يمتطي ظهور الأوطان والشعوب؟!. *(الدستور الاردنية)