الصورة الطوباوية البرَّاقة لشعب ثائر أعزل يواجه هراوات الأمن ومدرعاته بالورود، وتسقط تحت هتافاته المدوية "أعتى الديكتاتوريات" و يفرُّ الرؤساء على متن أقرب طيارة طالبين اللجوء.. سرعان ما دهستها أحذية "مرتزقة الناتو" وصواريخه، وتدلَّت مشنوقة ب"لحى الإخوان المسلمين"...! ما الذي تحيلُ إليه كلمة "ثورة" حين ترن في أُذن غالبيتنا اليوم؟...: سحنات مذيعي "الجزيرة والعربية" وهم يواصلون الكذب بالصفاقة نفسها.. صواريخ "توما هوك" وهي تنسف الحياة والحرية والسيادة الوطنية في طرابلس فيما قطعان السُّذَّج في بنغازي يهللون للحياة الجديدة.. مشهد معمر القذافي مقتولاً ومسحولاً بصورة بشعة.. "جرذان الوهابية الصهيونية والمسوخ والمرتزقة المسلحين بتمويل قطري سعودي" وهم يتدفقون من تركيا ولبنان والأردن، لينخروا مداميك الدولة السورية ويقوِّضوا سلمها الاجتماعي بقواطع وخوازيق الطائفية.. "علي محسن الأحمر" وهو يرتدي بدلة مدنية ويفجر بلاليع الفوضي المسلحة في تعز و "حميد الأحمر" وهو يستحث – بدعم قطري- حالةً قبليةً مواليةً له في المدينة و يُذكي نار العصبيات الميتة.. إلى كل هذه الخلطة من القبح والنشاز، صارت تحيل كلمة "ثورة".. إلى الدم والكذب والطائفية وهيمنة الرجعية والبترودولار وصعود نجم الإسلام الأمريكي... أفدح من ذلك هذه الهرولة الحمقاء التي تنجرف إليها أعداد غفيرة من القطعان في الشارع العربي لشرعنة "الحرب الصهيو أمريكية" ضد الدولة السورية ودعم عصابات المرتزقة التي تنفذها، تحت المسمى الذي لم يعد طاهراً نفسه :"الثورة".. أليست هذه القطعان هي ذاتها التي هتفت في 1991م "بالكيماوي يا صدام" و نذَرَتْ للرحمن صوماً في 2003م حتى لا يسقط نظامه ؟! ما الذي استجد اليوم لتهتف ضد نظام و "كيماوي الأسد"؟! هل أصبحت هذه القطعان أكثر وعياً اليوم منها قبل أعوام؟! أم أنها تفعل كل ما تفعله لأنها لا تَعِيْهِ، وكانت ولا تزال تُساق بخطام الاستخفاف – لا بحافز الوعي- لتهتف مع الشيء وضده وللشيء ونقيضه بنفس الحماسة والاندفاع؟! في هذه الحالة فإن الغباء - وليس العكس- هو رأس مال الثورة، والاحتجاجات الكبيرة وقودها غباء كبير... تتردَّى الأوضاع الاقتصادية فيتردَّى الوعي، فيندلع "بارود الغضب الشعبي"، وتنعدم الرؤية كلياً لدى الجماهير بما يجعلها قابلة بلا حدود للانقياد خلف أقرب إصبع حاذقة ومتربصة تسوقها بإشارة صوب الهدف الخصم الذي تفجر غضبها عليه، مهما كانت درجة مسئولية هذا الهدف عن بلواها أو كان بريئاً منها! ستون عاماً كانت إسرائيل تنام على مرمى حجر من "جماعات الإسلام السياسي" في مصر، وكانت قذائف منجنيقات الجهاد المقدس ، الذي تشعله هذه الجماعات؛ مصوبة على الدوام إلى صدر "عبدالناصر" وصدر السوفيات ضامنِ التوازن العالمي، كما هي اليوم مصوبة إلى صدر سوريا وإيران والدور الروسي - الصيني المبشِّر بارتخاء خناق الواحدية القطبية على عنق العالم... فإذا كانت سياسات الهيمنة والدهس والاستحواذ الأمريكية تعمل على تنمية ومفاقمة غضب الشعوب العربية فإن "جماعات الإسلام السياسي" هي قنوات التصريف التي تتولى تبديد سيل الغضب و حرْفَهُ عن مساره بعيداً عن إسرائيل والمصالح الأمريكية في المنطقة، وضمان ألا يتحول إلى طوفان جارف... ما أشبه غضبَ العرب بنَفْطِهم ؛ فكلاهما لا يصب في مصلحة الشعوب العربية؛ بل ضدها – في الغالب- ولمصلحة أمريكا.. وتلك إحدى المكاسب الفادحة لخيانة النخب العربية الحاكمة والمعارضة..! صرت على يقين أكثر من ذي قبل، بأنه من المستحيل أن نتقاسم مع أمريكا النيوليبرالية ربيعاً واحداً في الوقت ذاته، فربيعنا خريفهم وخريفنا ربيعهم، والثورات التي لا تكون خلاصاً من التبعية لاحتلال مباشر أو غير مباشر، هي مَجْلَبةٌ للاحتلال! كيف يمكن أن يرفع أحدهم علم الانتداب الفرنسي لسوريا ويسمي معركته ضد نظامها العربي "حرب تحرير"، ثم يكون شخصاً سَوِيَّاً و حرَّاً ويجد من يصفق له، ولا يبصق عليه وعلى ثورة من هذا القبيل؟