( من ذا الذي يشبهُ المحضارَ وا أسفي فلا شبيهَ له أقرانُهُ ذهبوا قد سار عن ثقةٍ في مسلكٍ وَعِرٍ واللاحقون به في الموكبِ انسحبوا إن قيل عن شعرهِ وحيٌ وموهبة سبحانَه يهبُ الرحمنُ ما يهبُ أو قيل بل إنه سحرٌ ومعجزةٌ فقولُهم كان مصداقاً وما كذبوا ) بهذه الدرر التي شكلت قلادة لقصيدة ثرَّة قلدها الشاعر والباحث الأستاذ / جيلاني علوي الكاف ديوانه الشعري المعنون ب( إشراقات من تريم ) الصادر حديثاً عن " مكتبة تريم الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع ومركز الكاف للدراسات والنشر", وقد احتوى على ثلاث وخمسين قصيدة مختارة بين فصيحة وعامية .توزعت على مائة وستة وثلاثين صفحة من الحجم " المتوسط "، وقدم له الدكتور الناقد / عبد المطلب جبر،وصمّم غلافه علوي علي عبدالرحمن السقاف ،وزيَّنت غلافه الأخير لوحة " مزهرية " رائعة بريشة الدكتور/ عمر عبدالعزيز مهداة منه للشاعر يُعد هذا الديوان في الترتيب الثالث من اصدارات الشاعر الباحث / جيلاني بعد ديوانه الأول المعنون ب ( رياض العاشقين ) الصادر عن وزارة الثقافة والسياحة (صنعاء عاصمة الثقافة العربية عام 2004م .و (منظومة الدان) الصادر عن مركز الكاف للدراسات والنشر 2011م ، إلى جانب باكورة أعماله الأدبية وهو كتاب (عميد الدان حدّاد بن حسن الكاف ), الصادر عن دار تريم للدراسات والنشر عام 2003م ،وكتابه ( الدان صناعة وإتقان ) الصادر عن "مركز عبادي بالاشتراك مع دار تريم ومركز الكاف للدراسات والنشر عام 2012م". ناهيكم عن أضخم إصدار لهذا الباحث العروضي الشاب،المعنون ب (أوزان الشعر الشعبي العاني وقوافيه صادر عن الهيئة العامة للكتاب صنعاء 2012م ) الذي يعد من أهم وأجود الكتب وأثمنها التي تناول فيها الباحث / جيلاني الكاف،بالشمول والدقة ،عروض الشعر بنوعيه التقليدي الفصيح والعامي الشعبي . كما يعد مرجع لا غنى عنه للشعراء والباحثين والدارسين .
نعود لأصل موضوعنا ، على الرغم من أن الحديث يطول ويتشعب عن هذه القامة البحثية والشعرية التي أنجبتها الغناء " تريم "، والتي قال عنها المؤرخ القدير الأستاذ / جعفر السقاف في مقدمته ل " منظومة الدان " للشاعر " جيلاني ": (إن تريم هي البلد المليء بأمجاد اليمن وتراث اليمن وشعراء اليمن , وعندما رجعت إلى الكتب التي كتبت عن أشعار الدان حتى المستشرق (روبرت سارجنت) الذي أقام وجلس في تريم سنتين كلهم اعترفوا بأن تريم هي المخزون التراثي الحضرمي.) نعود لنقول : أن ديوان ( إشراقات من تريم ) مثل بالملموس متلازمة الشعر كإبداع وصناعة في آنٍ معاً .فشاعرنا " جيلاني " كما أسلفنا يعد مرجعية عروضية في صناعة الشعر إلى جانب رهافة احساسه وذائقته الشاعرية وتمكنه من المخيلة الشاعرية كما وصفها " مارون عبود بالقول : ( إن مخيلة الشاعر المبدع " راديو" يلتقط حديث عوامل الأثير, وقريحته " راديوم" يشعُّ نورا خالدا, فعبثا يحاول قرع باب الفن إن لم يكن – في عونه- قلب متقد وعين ثاقبة) [ أنظر كتابه :"على المحك" – ص34] .وهذه المسلمة الرؤئوية افصح عنها الدكتور / عبد الله حسين البار في معرض كتابه القيم والمسوم ب "شعر المحضار .. النشيد والفن " حين كتب يقول : ( ولعل عظمة الإبداع الفني تكمن في كونه سؤالا واحدا يضعه عصر ما في فترة محدودة من الزمان ،ولكن الإجابة عليه تتعدد حتى تشمل عصورا بحالها تتغير فيها الإجابات ولكن السؤال يظل على حاله مؤتلقا.) [ الكتاب – ص 8] . وفي مقدمته الوجيزة لهذا الديوان كتب الدكتور / عبد المطلب جبر يقول : ( يجمع الديوان بين دفّتيه لونين من طرائق الشعر : الحكمي والحميني .. في قصائد اللون الأول اقتدار في البناء والصياغة وامتلاك أدوات المعمار ..وتلوين للإيقاع .. ويلحظ القارئ أن جنوحاً في بعض القصائد لكسر حدّة الإيقاع من خلال ظاهرة (التدوير)العروضي الذي يكشف من جانب آخر عن تزاحم الأفكار والخواطر وتنوّعها وتعددها فتنساح في البيت دون عائق وتكسر حدّة الوقفة بين الشطرين ..ولم يغفل الشاعر نماذج كتابته من القصيدة الجديدة (السطرية)..تبين ذلك القصيدة الموسومة (أشباح من ليالي الغربة والشوق) التي عبّرت باقتدار وبلغة متفرّدة عن تجربة صادقة عميقة تلازم الشاعر في موقفه من الكون والأحياء والأشياء الذي يقوده إلى غربة أو (كربة) كما يقول الشاعر . ويستطرد " جبر " قائلاً : (أما القصيد الحميني ..فيؤكد لنا تمثّل الشاعر واستلهامه واستيعابه لتقاليد الشعر الحميني في حضرموت .. الابتداءات .. المعجم .. البناء .. المعمار ..اللوازم .. ولعل إخراج الديوان مازجاً بين اللونين يقول لنا : إنها الشعرية تتجلى في اللغة بطرائق تشكيلها ومادتها ..فصحى أو عامية .) لن أفسد عليكم متعة التشويق لقصائد الديوان ، بل أترككم تسيحون في رياضه وبين أقاحِ قصائده مكتفيا بإيماضات من بعض قصائده مثل قوله في قصيدة " الدان الحضرمي " : ( الدانُ ذوقٌ وأنغامٌ ومدرسةٌ من فيضها السحرُ والإبداعُ ينسكبُ كم هام وجداً به الغاوون من زمنٍ ومن مناهله العشّاقُ قد شربوا الدانُ في نبعِهِ صوتٌ ودندنةٌ لحضرموتَ ووادي الخيرِ ينتسبُ ) . وقوله في قصيدة " العاصمة تنادي " : العاصمةُ الغَنّاءُ تُنادي مَنْ ذا يحميني ؟! مَنْ يُنْقِذُني ؟! روحي تُزْهَقْ إنّي لا أرضى عرساً فيه الفرحةُ قد تُخْفَقْ أموالٌ تُهْدَرُ أو تُسْرَقْ لا تحضيرٌ لا إشعارٌ مُسْبَقْ سنواتٌ ستٌّ قد طُمِسَتْ ذهبت في الريحِ مع الموجِ الأزرقْ لا خصبٌ لا عشبٌ لا عمقٌ في الجوهرِ والرونقْ ما هذي الغفلة ؟! ما هذا التهميشُ الأحمقْ ؟! ) . ومن قصيدته العامية الغنائية ( قالوا عن الحب كلام " نقتطف لكم باقة مخضلة برحيق الكلام . يقول فيها " جيلاني الكاف " : ( قالوا عن الحب كلام أحباب والله كرام في أمرهم حيّرونا ساعة يقولوا نعيم ساعة يقولوا جحيم لا هم رسوا أو رسينا أحباب منّا وفينا في أمرهم ما درينا معنا و إلاّ علينا ) . شكراً على متابعتكم لمقالنا هذا ,