عندما نقرأ أو نسمع قولا مخالفا لأفكارنا وآرائنا نتخلخل ذهنيا ونفسيا لهنيهة واحدة، أو لمدة تطول أو تقصر، ذلك لأننا لم نعتد أن نسائل أنفسنا عن أفكارنا التي نعتقد سلامتها المطلقة، ولم نعتد أن نقيم تفاعلنا النقدي حوارا مع القراء، ولكن إيجابا مع ما نحب وسلبا مع ما نكره، انطلاقا من أن ما نؤمن به صواب لا ينتقض. وبهذه الطرائق التي تعزز نزعتنا الذاتية نتفارق سريعا مع أي رأي مخالف ولو كان وجهة نظر، فنظل سادرين في أن ما قلناه صحيح تماما ويجب أن يظل مصونا لا يمس، فهل نريد بكتاباتنا وخطبنا الاستعراض بغير نقاش ووجهات نظر؟ كدولة تملك منظومة من العتاد تستعرضه جماليا، ويرفع قادتها رؤوسهم بثقة من غير أن يرغبوا في إدخاله المعترك، إن كان هذا فأظنه خطأ فادحا بحاجة إلى أن نتجاوزه. الآراء والأفكار ممارسات طالعة من صميم الحياة وتنوعها وطبعي أن تتنوع الآراء ووجهات النظر حول ما نقول ونكتب وفي ذلك ما يعطيها تميزها وحضورها، أعني في إطار التفاعل، فأول شيء أجدر أن نهزمه هو ما يتعلق بنا نفسيا في أن ما نكتبه أو نقوله صواب مطلق، ذلك لأننا بهذا الاعتقاد نطرد من مشاغلنا وجهات النظر التي تجعلنا وجها لوجه أمام أخطائنا وأغلاطنا، بينما نسمح لأنفسنا بأن نلاحظ وننتقد انطلاقا من مركزية الذات التي تجعلنا متحفزين أمام أي فكرة مخالفة، منسجمين مع أنفسنا إلى آخر المطاف، وفي ذلك نتطور من جهة واحدة فقط، هي جهة الذات التي تزداد صلفا مما يؤثر سلبا على مجرى وحيوية أفكارنا الثقافية والسياسية والفنية والتعليمية.. إلخ. ذواتنا المثقفة تشكل أحيانا عوائق أمام تطور ثقافتنا وذلك لون من ألوان الإعاقة الثقافية غير المنظورة التي يمارسها الكتاب باسم الثقافة. عندما نعلم أبناءنا دروسهم كل مساء ألا نريدهم أن يسألونا، ذلك أقل حق من حقوقهم ليفهموا جيدا، وعندما نكتب مقالا أو نلقي خطبة أو نؤلف كتابا ألا نريد للقراء والمتلقين أن يتساءلوا ويناقشوا كأقل حق من حقوق التفاعل الذي دعتهم إليه أقوالنا، مما هم أجدر أن يشكروا عليه. المفردة الصعبة في كتاباتنا التي يتهيبها كثير من القراء هي (نحن كاتب المقال، أو ملقي الخطبة، أو مؤلف الكتاب..) التي لا نسمح لأحد بالاقتراب منها، ولو انتصرنا على هذه السمة من أنفسنا لما لاقت الأجيال صعوبة في ممارسة حرية الرأي ولما تحولت تعليقاتهم إلى شتم وسخط بأسماء مستعارة. أصعب كلمة في أي مقال نقرؤه في العالم العربي هو الكاتب، كيف يمكن أن نتناقش معه؟ ومن أي طريق؟ وعلى أية تجربة؟ وبأي أسلوب؟ ذلك لأن أسلحة الزينة التي يستعرضها في كتاباته مستعدة لإطلاق النار على القراء مباشرة، وبدون سابق إنذار، ونشهد يوميا طلقات الرصاص بين الكتاب أكثر من ساحات الاعتصامات مما يحدث بدوره إرباكا وهرجا. في ما يبدو لي لم تنشأ لدينا بعد قناعات حقيقية عن كيفية التفاعل الموضوعي مع الأفكار بحيث نردها أو نتقبلها موضوعيا، وإنما ثمة صلة من ريبة وهواجس تدفعنا لرد أفكار الآخرين انفعاليا كما تدفعهم لرد آرائنا ووجهات نظرنا بالطريقة نفسها. هذه الريبة منشؤها الأساسي فيما يبدو لي طبيعة العلاقات الاجتماعية بكل مشحوناتها في كراهيتها ورغباتها التي ما تزال تحكم المثقف لدينا إلى حد كبير، وتسيطر عليه، بدل أن يحدث العكس.