على بعد 60 كيلو متر تقريباُ جهة الغرب من مدينة سيؤن عاصمة وادي حضرموت وقبل ثلاثة عقود من الزمن أي في بداية الثمانينيات تقبع وحيده هذه القهوة أي ( قهوة بن عيفان ) يحتضنها جبل المخينيق لتقدم خدماتها البسيطة والمتواضعة من أكلات شعبية لزبائنها من عابري السبيل أو من تقطعت بهم السبل ليجدو في هذه القهوة ملاذا آمنا لهم يقيهم حرارة الشمس ويروي عطشهم ويطفئ لهيب جوعهم بما كانت تعد من وجبات خفيفة أو فنجان من الشاي . هذه القهوة قبل ذلك الزمن لم تكن شيئاٌ يذكر بل كان ذلك الموقع خالياٌ إلا من أشجار السدر والسمر , ومع مرور الزمن وعصر النهضة والتطور لمع اسم هذه القهوة وأصبحت أشهر من نار على علم بل تحولت من مقهى شعبي الى سوق تجاري وممر لحركة المواصلات يصل بين محافظة حضرموت ومحافظات الجمهورية الأخرى وكذا دول الجوار كالمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة ' وأصبحت هذه القهوة سوقا تجاريا يضاهي الأسواق التجارية الأخرى . هذه القهوة اقترن اسمها بشخص يدعى ( بن عيفان ) وهو العم / مبخوت خميس بن سعيد بن عيفان النهدي صاحب اللبنة الأولى ومؤسس هذه القهوة, وهذه التسمية لم تأت من فراغ أو بمحض الصدفة ولكن وراء تلك التسمية حكاية , ولأنني شغوف وأحب الاطلاع دفعني الفضول الصحفي للبحث عن تلك الحكاية ومن هنا كانت البداية : - بداية الرحلة : كان ذلك اليوم الاثنين 24/ديسمبر2012م حينما انطلقت صوب الرملة بمعية دليل الرحلة الاخ عامر سالمين بن حويل للبحث عن العم مبخوت بن حويل الذي يسكن منطقة العادية بمديرية القطن وهي قرية صغيره تقع غرب منطقة هينن التاريخية وعند وصولنا الى تلك القرية قادنا الدليل الى منزل العم مبخوت وسألنا عنه فأخبرونا أهل بيته انه في مزرعته وواصلنا المسير حتى وصلنا الى المزرعة وعندها انبرى لنا شيخاٌ مسن في السبعينات من العمر والى جواره طفل صغير وفتى في عمر الربيع يهش على جماله فقال لي الدليل هذا هو العم مبخوت وذلك الشاب ابنه والطفل حفيده ' فسلمنا عليهما بتحية الإسلام فردا علينا بمثلها بأصوات فيها نبرة البادية ' فقام دليلي بالتعريف بي وبالمهمة التي جئنا لأجلها فوافق على الحديث معنا وكان شخص غير عادي عصامي عاصر الحياة بكل ظروفها ومع أن العمر تقدم به كثيراٌ إلا انه – أطال الله في عمره- كان واعياٌ ومدركاٌ لكل كلمة وكان فطناٌ لتساؤلاتي وبدأ يروي لنا تفاصيل الحكاية ,,, - الحكاية كما رواها : يقول العم مبخوت : انا من قرية العادية (عادية آل عيفان) أبلغ من العمر 75عاما مؤهلي التعليمي معلامة متزوج وأب لخمسة أولاد وتسع بنات , وفي بداية حياتي كان لدينا دكان صغير وطاحونة للحبوب توفر لنا العيش 'و في ريعان شبابي سافرت الى المملكة العربية السعودية بسبب ظنك العيش والبحث عن مصدر رزق لي ولأسرتي عن طريق الوديعة وهناك تنقلت في مختلف مناطق المملكة وعملت في عدة أعمال ومحلات تجارية وتكررت سفراتي ونزولاتي الى أرض الوطن ثم تحسن الحال قليلا وملكت دكان خاص بي في السعودية إلا انها حصلت لنا مضايقات من مكتب العمل كوننا غير سعوديين وضاقت بنا الأحوال وقررت العودة الى الوطن وترك الهجرة والاغتراب وعدت بداية الثمانينيات واشتريت سيارة (زيزو) واشتغلت عليها ومن ثم قلّ العمل وبعت الزيزو واشتريت هيلوكس ومن ثم جاءت فكرة بناء قهوة شعبية في منطقة المخينيق وعندها بعت الهيلوكس واشتريت بثمنه عدد زفات طين ومدر لبناء القهوة ,, - فكرة بناء القهوة : " خدمة للجنود والمجندين وعابري السبيل " جاءت الفكرة حينها عندما رأيت المكان مهجورا وكان في ذلك الوقت الجنود والمجندين الذين يأتون من المكلا الى اللواء بالخشعة يتنقلون وكانت المواصلات نادرة حيث يقضوا ساعات كاملة تحت الأشجار تظلهم من حرارة الشمس ولم يجدوا حتى الماء في ذلك المكان كذلك يراودني إحساس وشعور ان هذا الموقع سيكون له شأن يوم من الأيام وخصوصاٌ موقعه الاستراتيجي وتيقنت انه حتماٌ ستمر الطريق من الشروره بهذا المكان ففكرت ان ابني مقهى لأقدم خدمة لأولئك الجنود والمجندين وعابري السبيل وكذلك النظر للمستقبل بأن يصبح طريقاُ وسوقا تجاريا هاما وهو كما ترونه اليوم ,,, - في عام 1984م وضعت اللبنة الأولى للمقهى : - " الأرز واللحم والخبز البلدي أفضل الوجبات التي تقدم للزبائن " يواصل العم مبخوت حديثة قائلاُ: في شهر مايو سنة 1984م وضعت اللبنة الأولى للمقهى وعندما بدأت بالبناء تم توقيفي بحجة عدم وجود رخصة بناء ومن ثم استخرجت الرخصة واستكملت البناء وكذلك قمت ببناء بيت شعبي بجانبه وبنيت المقهى وخليته (تركته) بدون أبواب ليكون مأوى لمن جاء بالليل ولم يجد مواصلات ينام فيه ' وعند افتتاح المقهى أتيب بالطباخ بن قبوس ليقوم بإعداد الشاي وطباخة الوجبات من الأرز واللحم التي تقدم للزبائن حينها بأسعار زهيدة بالاضافة الى الخبز البلدي الذي تعده الأسرة في البيت وهو خبز من القمح المحلي , الماء للشرب والوضوء لم يكن موجود بحيث أقوم بجلبه من منطقة الريان على موتر (اندرو فر) حيث كسرت "حطمت" ثلاثة (اندرو فرات) من جراء جلب الماء ' أما الكهرباء لم تكن متوفرة حينها ولكنني وفرت مولد كهربائي ( ماطور ) وكذلك التريكات والفوانيس ' ويواصل حديثه لقد كانت أيام جميلة مع انها في مشقة وتعب ولكن وجدت في خدمة الناس متعة وعيشة هنية حين أرى البسمة والسعادة على وجوه الزبائن أو من تقطعت بهم السبل ' ويقول العم مبخوت انه عندما عزم على بناء المقهى لقي عتاب ولوم من أصحابه حيث وصفوه بالمعتوه المجنون بسبب البناء في ذلك المكان الخاوي إلا انه وبعزيمة وإصرار وطموح تجاهل استهجانهم ومضى ليكمل المشوار ,,,,وحينها أتى الى جانبه احد المواطنين ويدعى مبروك واصل وبناء مقهى بجانبه ومن ثم توسعت القهوة وجاءت الوحده وأتى المستثمرون من مختلف محافظات الجمهورية كما أدخلت كافة الخدمات إليها وأصبحت مركزا تجاريا هاما ونقطة عبور تصل حضرموت بمحافظات الجمهورية ودول الجوار اما العم مبخوت استمر في المقهى حتى عام 1990م وبعدها يقول العم مبخوت ضاقت بي القهوة وأصبحت لا أقوى على العمل فقمت بتأجيرها ورجعت الى مسقط رأسي وبنيت منزل لي ولأسرتي بالاضافة الى مزرعتي التي اقتات منها قوت يومي اما الأولاد فمنهم من سافر ومنهم لايزال يعمل بجانبي في المزرعة . العم مبخوت عاد من حيث أتى ولكنه لم يعد خالي الوفاض بل ترك بصمات واسماُ لامعاُ لن تمحيه تقلبات الزمان ولارياح التغيير ويكفيه شرفاُ ان اسمه يملا الآفاق وأصبح معروف عند القاصي والداني وارتبط اسمه بذلك الموقع " مقهى بن عيفان " , نعم سيسجل التاريخ اسمه من ذهب على جبين كل مواطن وكل نزيل أكل وارتوى واستظل في تلك القهوة ,,,, - مواقف لاتنسى : من المواقف الغريبة والعجيبة التي صادفت العم مبخوت أثناء وجوده في المقهى في الأيام الخوالي يقول: قبل الوحدة حينها كان الشباب يسافرون تهريب الى السعودية فجاءوا عندي ثلاثة شبان وجلسوا عندي يومين وكانوا يريدوا السفر الى السعودية فقلت لهم انا لاعلاقة لي بذلك ولا اعرف احد وبعدها ذهبوا من عندي ' وبعد نصف شهر جاءت الشرطة وأخذتني وحبسوني وبعد خمسة أيام تم التحقيق معي بحجة أنهم جاءوا الى عندي أولئك الشباب وطلبوا مني تهريبهم فقلت لهم نعم جاءوا الشباب الثلاثة وطلبوا مني تهريبهم فرفضت بحجة ان المقاهي مراقبة ونصحتهم بالعودة الى أهلهم كون السفر مافيه فائدة وبعد تحقيق مطول معي تم إخراجي من السجن , كذلك أيام أحداث 13 يناير 1986م جاءوا الى المقهى مجموعة من الخواجات الأجانب وجلسوا عندي يومين وقاموا بشراء بعض الأشياء من البطاريات الصغيرة والباتري ( كشافات ) وكذلك اخذوا بعض الصور للمقهى وبعدها أتت سيارات ونقلتهم وانا لا ادري عنهم شئ '''' ان في تلك الحكاية الكثير من العبر التي تدل على عصامية الإنسان اليمني عموماُ والحضرمي خصوصاٌ حيث دأب على التنقل والحل والترحال بحثاٌ عن مصدر رزق ليؤمن به العيش الحلال له ولأسرته على الرغم ممايعانية من عناء ومشقة في سبيل ذلك الرزق ' وماقصة العم مبخوت إلا واحدة من تلك القصص والحكايات ستظل رمزاٌ للإنسان العصامي وسيخلد التاريخ اسمه في سجل شخصيات هذا العصر وستبقى أعلامه ظاهرة للعيان كما ستظل قهوة بن عيفان اسماُ لامعاُ على مر الأزمان ,,, كل التقدير وكل الحب بل واجب علينا ان نخلع القبعات إكراما لهذا العلم البارز الذي بناء حياته في عصر المتناقضات بقطرات عرق بكل صبر وثبات ,,,, كما هي التحية والشكر والعرفان لدليل الرحلة الاخ/ المعاق عامر سالمين بن حويل الذي تحامل على نفسه وتحمل عناء البحث والتنقل بسيارته معي وكذلك لاننسى صديقنا الغائب الحاضر معنا في الرحلة الذي قهرته ظروفه الخاصة ومنعته من مرافقتنا الصديق عبدالله فرج بن كوير ,,,, والى حكاية وقصة مكان من الأمكنة في محافظتنا الحبيبة لكم كل الحب والتقدير ,