يمكن القول ان يهود اليمن هم الأقرب إلى روح اليمن الحقيقية التي لم تتشوه. هم أقلية تكاد تتلاشى نهائياً وكانوا أكثر تنوراً في الماضي البعيد، لكنهم يعيشون اليوم أوضاعاً بائسة جداً، مع انهم من أقدم الكيانات الاجتماعية وأعرقها في اليمن، ولهم خصوصية ثقافية تتمايز عن باقي اليهود حول العالم، وتميزوا بجاذبيتهم الخاصة والغامضة في آن. يرى بعض الباحثين أن يهود اليمن من نسل الملكة بلقيس، عقب إيمانها بدعوة سليمان وزواجها، ويقول آخرون يرون أن اليهود جاؤوا إلى اليمن في حقبة ما بعد السبي البابلي لينجوا بأنفسهم. إلا أن هناك من يرى انهم ما تبقى في اليمن من صلة التجارة التي كانت رائجة بين الجنوب والشمال العربيين. وفي المقابل هناك من يطرح ما هو أكثر إثارة، أي أن اليمن هي أرض التوراة والميعاد، لا فلسطين، بل إنها أرض الساميين بحسب المؤرخ كمال الصليبي والباحث فاضل الربيعي وغيرهما. وفي الواقع، لا حقيقة تاريخية محددة تضع وجود التوراة في اليمن داخل إطار انثروبولوجي ملائم، إذ لا حقيقة ثابتة حتى الآن. عموماً، يدرك الاسرائيليون اليوم ان تراث يهود اليمن، الديني والثقافي، أشد أصالة من أي جماعة يهودية أخرى في العالم، إذ أنهم موجودون في اليمن منذ ما قبل الميلاد. غير ان هناك إهمالاً كبيراً في دراسة تاريخ اليمن القديم، وبالذات النقوش القديمة لحضارات الممالك المتعاقبة. وحتى الآن، ما زالت كنوز الآثار المطمورة في اليمن قادرة على كشف الكثير من الألغاز في هذا السياق. والحاصل ان التاريخ يحكي اعتناق ملوك يمنيين قدماء، الديانة اليهودية، أيام الدولة الحميرية، كي يقاوموا بها المسيحية التي حاولت غزو اليمن من طريق الأحباش المسنودين من الروم. وفي رأي المؤرخ جواد علي، فإن اليهودية دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة. والشاهد على التاريخ أن يهود اليمن برعوا وتفننوا في صناعة الخنجر اليماني الشهير ب"الجنبية" إضافة إلى الابداع منقطع النظير في صياغة الفضة والذهب والتطريز والأزياء وفنون الحدادة والنجارة والعمارة والإيقاعات وصك العملة. وبسبب سوء الأوضاع والمضايقات العنصرية والدينية في العصر الحديث، اندفع للهجرة إلى اسرائيل مئات الآلاف منهم، على نحو فردي في أوقات متقطعة منذ بداية القرن الماضي. وفي إسرائيل اليوم يعدّ اليهود من أصول يمنية أبرع الموسيقيين والمطربين على وجه الخصوص. هاجر يهود اليمن في موجة جماعية كبرى منظمة، بإشراف منظمات صهيونية، العام 1948، ونُقل أكثر من خمسين الف يهودي بطائرات أميركية وبريطانية من عدن إلى اسرائيل حينها، كما ظلت الهجرات تتوالى في الخمسينيات والستينيات، لكنهم هناك سرعان ما اصطدموا بالتمييز كمثل باقي اليهود الشرقيين "المرزاحيين"، ومازالوا يشكون تعرضهم للاضطهاد من قبل الغالبية الإشكنازية (اليهود الغربيين). أما في الخمسينيات والستينيات، فقد تعرض المئات من أطفال اليمنيين اليهود لمأساة الخطف من أسرهم، ليباعوا للأسر اليهودية الأوروبية في إسرائيل كما تكشف لاحقاً في فضيحة مدوية أخلاقياً وإنسانياً. واعتنق العديد من الأسر اليهودية اليمينية الإسلام. وحتى منتصف القرن الماضي، يتذكر كبار السن كيف أنه لم تكن هناك مدينة أو قرية يمنية، شمالاً وجنوباً، إلا وفيها يهود، حتى انحصروا خلال العقود الأخيرة بين محافظتي صعدة وعمران شمالاً. كانوا طائفة كبيرة منفتحة تقدر بعشرات الآلاف، وأصبحت أقلية صغيرة منغلقة. ولعل أكثر تجمع لليهود اليوم في مدينة ريدة ما بين صنعاء وعمران، وهم لا يتجاوزون الألف نسمة. هم ريفيون بوعي مدني مسالم ومتسامح، يمضغون القات كبقية اليمنيين، وهم أهل ذمة في حماية القبائل، لا يتحملون أي أعباء قبلية كالحروب وغيرها. كما يصنفون كجماعة محمية عند وقوع النزاعات القبلية. لعل خصلات الشعر الزنانير هي ما يميزهم عن المسلمين. محافظون بحسب الحياة الريفية اليمنية شديدة الشرقية والالتزام، يصلّون في منازلهم إذ لا معابد خاصة بهم، ويطالبون حتى اللحظة بمدرسة خاصة لأبنائهم في الأماكن التي يتواجدون فيها، ولم يحصلوا على هذا الحق منذ سنوات. على ان أطفالهم يتعلمون العبرية والتوراة والزبور فقط في منازلهم، ومنذ وقت مبكر، بينما يقف مستواهم التعليمي عند هذا الحد إذ لا يحبذون التعليم الرسمي المتضمن لمواد إسلامية، إلا أن البعض من شباب الأقلية اليهودية يحدث ان يحصلوا على فرص تعليم أميركية من جمعيات ومنظمات يهودية مهتمة بأحوالهم. بطبيعتها، تعدّ الأقلية اليهودية كتومة ولا تفصح عن تراثها، ويحكى أن حي قاع اليهود، وسط صنعاء العاصمة، كان أكبر تجمع لهم حتى الأربعينيات من القرن الماضي. كما كان يضم معابد خاصة كعنوان للتعايش الذي كان في ذروته. والثابت ان المساعي الصهيونية حرضتهم على ترك اليمن والهجرة النهائية إلى إسرائيل، إضافة إلى الوعي الامامي الذي كان يحكم شمال اليمن حينها أجبرهم على بيع منازلهم، حال المغادرة، كي تنقطع صلتهم بالمكان تماماً. كما فاقم الوعي بالقضية الفلسطينية لدى اليمنيين، التعامل الموتور مع اليهود، إضافة إلى سياق الوعي الديني المغلوط المنطلق من توجه أصولي إسلامي ضد اليهود باعتبارهم كتلة واحدة معادية للإسلام. أما في عدنجنوباً، فقد كان حضور اليهود في الثلاثينيات والأربعينيات كبيراً، وكان لهم نفوذ اقتصادي كما كانت علاقتهم حسنة مع المسلمين. لكن سرعان ما بدأ التصادم عقب إعلان إضراب شامل تأييداً لعرب فلسطين، وشارك اليهود في هذا الإضراب العام 1947 ضد الصهيونية، حتى تفاقم العصاب الشعبي الذي يرى بعض المهتمين أن منظمات صهيونية متشددة كانت تقف خلفه بحيث تحولت التظاهرات إلى هجوم على أحياء اليهود، حينها، فقتل وجرح المئات من اليهود والمسلمين ليبدأ العداء بين اليهود والعرب. وللتذكير، إنه مع بداية ظهور جماعة الحوثي، محافظة صعدة شمالاً، وتصاعد ثقافة الكراهية التي حملتها لليهود وإسرائيل، بات وجود يهود "آل سالم" هناك، أكثر خطورة يوماً بعد يوم. ثم مع تصاعد شعار الحوثيين المتضمن لعبارة "اللعنة عل اليهود"، إضافة إلى سيطرة الجماعة عسكرياً على المحافظة بعد حروب عدة، أقدموا، العام 2007ن على ترحيل أقلية يهود آل سالم الذين لا يتجاوز عددهم المئة مواطن ومواطنة، من صعدة إلى صنعاء. وقبل أعوام، قتل يهودي يمني على يد مواطنه المسلم المتطرف الذي أقر بجريمته "تقرباً إلى الله" لأن اليهودي رفض الدخول في الإسلام. وقبل أعوام أيضاً حاول يهودي ترشيح نفسه في الانتخابات المحلية ووجد ميتاً في حادث غامض. على ان يهود اليمن تركوا بصمة مؤثرة وشاسعة في فن الغناء اليمني بالذات، بينما يعد التراث الغنائي هو الأساس الفعلي لتعايش اليمنيين رغم الهويات المتشابكة. ثم أن الموسيقى عابرة للديانات، إلا أن الإشكالية تكمن في ان إسرائيل تعمل جاهدة لتقديم الموسيقى اليمنية على انها تراث يهودي، مع أنها نتاج اليمن. وعلى مدى قرون، منع الأئمة الذين تناوبوا على حكم الشمال، الغناء والطرب، بينما لم يكن يقدمه سوى اليهود، ما جعلهم أكثر مَن صانوه من الاندثار. لكن اليهودي اليمني الأشهر، والذي ذاع صيته ثقافياً وفكرياً، هو الشاعر والحاخام موري شالوم شابازي، الشهير بسالم الشبزي، والذي سكن في مدينة تعز - جنوب غرب - في القرن السابع عشر، وكان يحترمه المسلمون قبل اليهود، حتى أصبح اسمه كالأسطورة في عموم اليمن. ورغم ذلكن ما زال الكثير من أفكاره مبهماً، بحيث لم يُدوّن ولم يصل للقراء، كما التصقت به سمعة البركات الإلهية وبالذات من ناحية الشفاء من الأمراض. لكنه كان يسعى إلى التعايش الخلاق بين الإسلام واليهودية، كما كان كاتب أغان وتميز بالشعر الشعبي باللغتين العربية والعبرية. ويؤكد مهاجرون انه تم نقل مخطوطات أعماله الى إسرائيل، وهو اليوم من أهم الرموز هناك، حتى ان إسرائيل أطلقت اسمه على أحد الشوارع، كما يتردد بشدة انها أرادت نقل رفاته، لكن السلطات اليمنية لم توافق. أما أول امرأة يُنشأ لها نصب تذكاري في إسرائيل، فهي الفنانة اليمنية اليهودية عفراء هزاع، التي ولدت وماتت على حب اليمن وتمسكها بهويتها العربية. على أن موقف أقلية اليهود في اليمن من الاحتلال الصهيوني واضح وحاسم، بحيث يتمسكون بتعاطفهم مع فلسطين، بل إن بعضهم يؤمن ببطلان قيام إسرائيل أساساً، ولذلك لم يلجأوا إلتى الهجرة رغم ظروفهم الصعبة. وحتى اليمنيين في إسرائيل، يصرون على الاعتزاز بتكوينهم اليمني، فهم يقيمون متاحف للموروثات الشعبية اليمنية العريقة. كما يحافظون على تقاليد اليمن وثقافتها الشعبية والاكلات والأزياء ذات المزاج اليمني في غالبية مناسباتهم داخل إسرائيل. وتنتشر في اليمن الأغاني التراثية التي يؤديها الفنانون اليمنيون اليهود بطرق حديثة رغم الحظر الرسمي، كما تنعكس في أدائهم الأحاسيس الاستثنائية بالإيقاعات اليمنية، بما يؤكد متانة ذاكرتهم الجماعية ولوعتهم الدرامية الاغترابية لفراق الوطن.