بلد أفاق للتو من غفوة التاريخ ولم يزل نصف شعبه يعيش دون خط الفقر ويصادر الجهل فيه كل حلم جميل وتحشر صغاره في الفصول كما النحل ن إلاّ أن مؤسساته لا تتوان عن اقتناء السيارات الفارهة وتعشق المكاتب الفاخرة وفرش الأرض بأنفس السجاد واستيراد أغلى تكنولوجيا العصر ، وبذخ الملايين شهرياً على ورشات عمل روتينية في أرقى الفنادق، مصحوبة بأشهى وجبات الجمبري والكافيار، فيما يصطف الموظفون في الطوابير بانتظار توقيع أوامر الإيفاد الى الخارج ، لكن أغرب ما فيه هو أن لا أحد فيه يسأل : لماذا كل هذا البذخ؟ **أرقام بحقائق مريرة في استطلاع رأي على (60) موظفاً حكوميا يمثلون ست وزارات ، كشفت النتائج أن 99.4% من هؤلاء الموظفين لم يسبق لأحد من زملائهم في العمل أن عوقب على كسر قطعة أثاث مكتبي أو جهاز مما يعمل عليه ، وأن 25% منهم اعترف بتسببه بضياع أو تلف شيء من الموجودات يستحق العقوبة أو الغرامة. وتؤكد نسبة 85% تقريباً أن مؤسساتهم تفضل شراء تجهيزات مكتبية مستوردة تفتقر للمتانة وتوجد لها بدائل محلية تفوقها جودة وأقل سعراً منها بكثير، كما تشير نسبة 74.4% ممن أجري عليه الاستطلاع الى أن الوكلاء والمدراء العامين في مؤسساتهم يرفضون استخدام مكاتب من سبقهم ويقومون باستبدالها بمكاتب جديدة، فيما تذهب نسبة 100% من عينة البحث الى تأكيد حقيقة استخدام سيارات الدولة التي تحمل لائحة (حكومي – جيش) للأغراض الشخصية أكثر من الاستفادة منها لخدمات المؤسسة. كما تشير نتائج الاستطلاع الى أن 82% من ورشات العمل التي تقينها المؤسسات الحكومية لا يتوخى منها الفائدة بقدر ما يراد منها تلميع صورة المؤسسات أمام المسئولين الأعلى، وأمام الرأي العام، كما يعتبرون أن 85% من ورشات العمل تتخللها عمليات فساد مالي كبيرة ، فيما قالت نسبة 90% أن مؤسساتهم تمتلك المكان المناسب لعقد مثل تلك الو رشات إلا أن أصحاب القرار اختاروا إقامتها في فنادق أو صالات خارجية تؤجر بمبالغ كبيرة. وتؤكد عينة البحث الميداني أن 70% منهم تقريباً لم يسبق لقيادة الصف الأول في مؤسساتهم أن دخلت الى مكاتبهم وراقبت ما فيها من أثاث أو تنظيم أو سير عمل. فيما قالت النسبة المتبقية أن قيادات المؤسسات الذين دخلوا مكاتبهم أو رأوها من الباب الخارجي لم يبد أي واحد منهم أية ملاحظات أو توجيهات فيما يتعلق بما هو كائن داخل غرفهم المكتبية. **مظاهر بسعر الياقوت تقول السيدة خديجة عثمان بوزارة الصحة العامة والسكان : هناك إهمال كبير وعدم محاسبة في جميع دوائر الدولة وليس فقط بوزارة الصحة ، فنحن يعجبنا تقليد ما نشوفه بالتلفزيون أو الدول الأخرى لكننا نقلدهم بالمظاهر وبس أما بالعلم والخبر وطريقة العمل اعذرني.. هذا الكلام ما فيش. وتضيف : واحد من الوكلاء مثلا عنده غرفة ساع بيتنا يعني لو تكلم من على مكتبه الذي في الطرف الثاني ما يسمعه، وفوقها عاملين له غرفة أخرى كبيرة جداً للاجتماعات، وغرفة ثالثة للسكرتيرة ورابعة يفعلوا فيها الشاي والقهوة.. وتتساءل : ليش كل هذه الغرف والأثاث ، والحكومة عارفة بسياستنا الصحية الفاشلة ، وما نعرف غير نكتب تقارير، ونرسم خطط، شي بعلمك وزارة صحة تداهم مذاخر أدوية فاسدة وتسرق نصها وترجع تبعيها على مخازن أخرى!؟ ويذكر محمد عبد العزيز أن مديره العام بعد تعيينه بحوالي ثلاثة أشهر قرر تأثيث غرفة أخرى والانتقال إليها وترك مكتبه القديم للسكرتارية وقام بالاتصال بشركة "العيسائي " للمفروشات وطلب منهم إرسال كتلوكات .. ويؤكد أن مديره انتقى الأثاث وطلب من مندوب "العيسائي" تحميلها وإحضارها الى المؤسسة وقطع فاتورة بالحساب وإرسالها مع العمال، ولم يسأل المدير أبدا عن الأسعار وكل ما كان يهمه أن يكون شكل المكتب والطاولات والمكتبة متناسق وجميل ولا يهم إن كان سعرها بالدولار أم اليورو أم بسعر الياقوت. أما صالح عبد الولي الصوفي فإنه يؤكد : كلما جاء مسئول جديد تلقاه يرنج الواجهات ويعمل يافطة جديدة بكذا ألف ريال ، وهذه الأيام دخلت علينا موضة النافورات ، مضيفاً : بعض الناس عجيبين مستعدين يعملوا نافورة بنص مليون ريال وبنفس الوقت يرفضوا شراء كرسي مريح للموظف الذي يبقى جالس على كرسي حديد طول وقت الدوام. ويشير الصوفي الى أن المباني الحكومية غالباً ما تكون ضحية اجتهادات المسئولين الخاطئة فيقوم البعض بتحويرها أو استبدال شبابيكها آو أبوابها ليستفيد مبلغ معين خاصة ليس عندنا نظام أو قانون يفرض قيود على هدم أو إضافة شي للمباني الحكومية خلافا للمخطط الأصلي. **سيارات بالبلاش يذكر عبد الملك الحمزي- موظف بوزارة التربية- أن الغالبية العظمى من سيارات الدولة تتعرض للتخريب والاستهلاك السريع بسبب عدم اهتمام الذين يسوقون السيارات أو إدامتها وتفقدها من حين لآخر ، مثلما يفعلوا ذلك لو كانت ملك خاص لهم. ويؤكد: الوزارات تسلم السيارات للموظفين وما عاد أحد يدورهم أو يسألهم ليش السيارة مصدومة أو فيها أعطال كثيرة ولا هناك من يطلب من السائق أن يتركها داخل مقر العمل عندما يذهب في إجازة.. ومختصر الكلام هو أن السواق أو الموظفين يتصرفون بالسيارات كما لو أن الدولة أعطتهم إياها هدية ببلاش. **لصوص يتحدون الوزير تؤكد انتصار الشعيبي – وزارة الثقافة- كانت لدينا أجهزة كمبيوتر قديمة تتعبنا فطلبنا أجهزة جديدة لكن عندما صرفت لنا الوزارة جهازين تفاجآنا أن المدير أخذ واحد منهن الى البيت ، وقال أنه يريد يعلم الجهال وبعد أسبوعين أخذ مدير الحسابات الجهاز الثاني وقال إن عمله كثير ويحتاج أن يكمله في البيت ، وأشارت الى أنهم رفعوا رسالة سرية للوكيل يعلموه بما حدث إلاّ أن لم يتبدل من الأمر شيئا حتى هذه الساعة. وتعتقد السيدة الشعيبي أن جوهر المشكلة هو افتقار الدولة لأجهزة رقابية ماهرة تحاسب على موجودات الممتلكات الحكومية ، وتصنفها الى درجات بحسب حالتها ، ولعل المتابع جيداً يقتنع أن اليمن لم تشهد حالة واحدة تمت إحالتها للقضاء بسبب نهب أو تخريب ممتلكات عامة للدولة. أما زميلتها محاسن تؤكد أن زوجها الذي يعمل في وزارة النفط يحضر سنويا للبيت كميات كبيرة من القرطاسية المختلفة وكل ما يحتاجونه من مستلزمات مكتبية بما في ذلك الحبر لطابعة الليزر، وتقول : ما دام عندهم فائض فالأمر عادي ما فيها شيء لو أخذ منها للبيت . عندما سألنا أحد الموظفين في وزارة الزراعة – ناصر ع. ص. – فيما إذا كان لديه استعداد لإصلاح مكتبه أو كرسيه الذي يعمل عليه لوحدث فيه كسر سهل إصلاحه رد علينا قائلاً : ما دخل أمي أنا .. أو هو حق أبي .. بعدين ايش يوقع للدولة لو جابت واحد جديد. ولما أبدينا الدهشة من إجابته علق قائلاً : قبل أن تحملني مسئولية كسر طاولة روح شوف الناس الذي أثثوا بيوتهم بالكامل من ممتلكات الدولة ، وما فيش من يحاسبهم وعلى كل حال فإن من بين (25) موظفاً سألناهم السؤال ذاته كان هناك (3) موظفين فقط قالوا أنهم يعتنون بأثاث مكاتبهم ، ويرممونه من حين لآخر، ويشترون المواد اللازمة من جيوبهم الخاصة، لأن قيمتها "تافهة". أما على صعيد وزارة التربية والتعليم فان من بين كل (30) معلم ومعلمة كان هناك معلماً واحداً فقط قال أنه يراقب أثاث المدرسة ويلزم الطلاب بالتعاون في إصلاح ما يراه على وشك الدمار، بينما أرجع الباقون المسئولية الى إدارة المدرسة، ويقول بعض المدرسين والمدرسات أن مدارس كثيرة في مختلف أرجاء الجمهورية تقوم ببيع معامل مخبرية متكاملة وطاولات دراسية وسبورات ووسائل إيضاح وغيرها الى إدارات المدارس الخاصة، وبكلفة قد تصل الى نصف أو ثلث السعر الأصلي لتلك المعدات. **بكاء أخوة يوسف أثبتت الاستطلاعات التي أجريناها بشأن الممتلكات العامة للدولة أن الظاهرة غير مختصة بفئة اجتماعية أو سياسية بعينها كونها تترجم نفسها كجزء من التكوين الثقافي السائد في المجتمع ومفردات سلوكه اليومي، رغم أن هناك من يربطها بالحزب الحاكم. يقول الدكتور علي باعباد- أستاذ العلوم السياسية- أن توجه البعض لإلصاق التهمة بجهة محددة دون غيرها يعني أن هناك من يحاول إبعاد الشبهات عن نفسه ، ولفت الأنظار الى أفق ثابت من اجل خلق فرص ثمينة لنفسه لنهب المال العام أو تخريب ممتلكات الدولة، فهم يعملون على غرار ما فعله أخوة يوسف حين بحثوا عن كبش فداء يحملونه وزر فعلهم الشنيع، ويضيف: هؤلاء أغبياء إن أرادونا أن نصدق أن عناصر الأحزاب الأخرى غير موجودين في دوائر الدولة، ويعيشون كما الملائكة أو الأنبياء بعيدين عن الرذيلة.. فأنا واثق أن هؤلاء المتباكين على الممتلكات العامة صباح مساء هم في مقدمة العابثين بها. فيما تقول المحامية هدى سلطان: أن بقاء هذه المشكلة واستشرائها تعود الى عزوف الذين يستشعرونها عن التفكير بحلول ومعالجات، ربما لنهم مستفيدون من وجودها، ويشجعون على أنها إحدى أدوات تقويض سلطة الحاكم، لأننا كما نعلم أن الظاهرة الاجتماعية والسلوكية يواجهها الجميع ، ولا أحد يتنصل من مسئولياتها خشية أن تمتد وتتسع وتتحول الى كارثة، وتؤكد أن البديل الوحيد لاستئصالها هو بتعزيز التربية الوطنية وغرسها في نفوس النشء ليتعلموا حب الوطن كما يتعلموا حب الوالدين، أما الجانب الرقابي فهو مطلوب أيضاً طالما ونحن ندرك بالضبط حجم الاستجابات المتمخضة عن التوعية الوطنية. **جرأة في الدفاع مدير عام إحدى دوائر الدولة يعترف بوجود هذه الظاهرة العبثية بالممتلكات العامة لكنه يقول: ماذا عسى المدير العام يفعل لموظف أو موظفة يستخدمون تلفون العمل بإفراط ويتسببون بفواتير كبيرة تضاف لعبء الإدارة، ويتساءل : هل أترك المهام المكلف بها وأتفرغ لتفتيش المكاتب ومراقبتها.. ويجد هذا الرجل مسوغات أخرى فيقول: أن اللوائح الداخلية لمنشآتنا ودوائرنا لم ترد فيها أي ضوابط أو أحكام يمكن العودة إليها لضبط المخالفين ومحاسبتهم. على ما يبدو أن في كل مكان يذهب إليه المرء هناك ثمة حقوق دولة تنتهك ، وهناك قطاع خاص يمثل الوجه الآخر للإرادة البشرية، التي تخلق اللوائح والأنظمة عندما تستدعيها الحاجة الى تشريع، وتفرض النظام وتحرص بقوة على التشبث بفضائل ما تقدمه لمصلحة العمل والمجتمع. ولكن ما زلنا نتساءل عن أمور محيرة للغاية: يا ترى ما الذي يمنع الوزير أو وكيله أو المدير العام من القيام بجولات مفاجئة على مكاتب موظفيهم، ليقفوا من خلالها على تقييم حقيقي لكل ما هو كائن لديه ، وملامسة مواطن الخلل ، ومحاولة تصحيحها!؟ ويا ترى لماذا لا يفكر المسئولون أن الأموال الطائلة التي يهدرونها على تأجير قاعات فنادق الدرجة الأولى والوجبات الخفيفة والثقيلة لمناقشة قضية ما يمكن أن تتحول الى مكافآت وحوافز تمنح للكفاءات المجتهدة تشجيعاً لعطائها ودعماً لإبداعها، ما دام شاعرية المكان لم تضف شيئاً على مخرجات حلقة نقاش كلنا يعرف لماذا تقام؟ وما الذي يحول دون جرد الممتلكات وسداد النقص من السوق المحلي دعماً لمواطنينا بدلاً من ترويج السوق الأجنبي الغريب، الذي يقل كفاءة وجودة ويرتفع بسعره عن سواه.؟ فما زال الكثيرون جداً مؤمنون أن المرء حين يكون في بلد فقير يناضل لينمو ليس بالضرورة أن يركب رموزه أحدث موديلات السيارات الأوروبية أو الأمريكية طالما وأن موديل العام الفائت أو الذي قبله يفي بالغرض ذاته؟ لقد علمنا أجدادنا حكمتهم ( كل واحد يمدد رجليه على طول دفاه)!