خلّفت الحروب الستة في صعدة آثاراً نفسية وثقافية ليست في نطاق مسرح أحداثها وحسب بل لدى كل المجتمع اليمني, وربما أيضاً في المحيط الإقليمي, في الوقت الذي توارت جميع القوى والأصوات والأقلام التي كانت إبان الحرب تشق الصدور كمداً على صعدة بمجرد توقيع اتفاقية السلام, فحساباتنا الحزبية عادة ما تأتي عارية من القيم الإنسانية وكاشفة سوأة الرذيلة السياسية. لقد ولّدت تداعيات الحروب صوراً ثقافية مشوّهة وانطباعات نفسية معقّدة سواء تجاه وظيفة الدولة وأدوارها أم قيم مناطق الصراع والمفردات السلوكية والفكرية لأبنائها, حتى أمست القطيعة تلقي بظلالها أو في أحسن الأحوال يخيم الحذر الشديد على تعاملاتنا اليومية للدرجة التي لم يعد يرد ذكر صعدة أو سفيان في وسائلنا الإعلامية إلا عندما تكون هناك حوادث جنائية, أو زيارة للجنة الوساطة القطرية. لقد عادت أجهزة الدولة إلى صعدة وغيرها, لكن إعلامنا وأقلام مثقفينا لم تعد معها.. كما أن منابر وأقلام الحوثيين لم تعد إلى صعدة, إذ أنها مازالت في أجواء الحرب وخطابها الحماسي, لا تولي اهتماماً لمسؤوليتها في إعادة تقديم الوجه المدني والحضاري والثقافي والإبداعي لصعدة, وإعادة تقديم نفسها أيضاً كقوة مجتمعية مدنية تأخذ على عاتقها مهام النهوض بمقومات الحياة بمبادرات ذاتية أو جنباً إلى جنب أجهزة الدولة. فكم تمنيت أن أزور صعدة وأتفقّد أحوال أصدقائي فيها, وأتلمس هموم أبنائها عن كثب, غير أن الخطاب السائد المتخم بالانفعالات يمنعني منها, وربما يمنع آخرين مثلي. أعتقد أن ما تم تنفيذه من بنود اتفاقية السلام يجعل الفرصة مواتية جداً أمام الحوثيين للشروع بنقلة نوعية يخلعون بها جلباب “التمرد” ويرتدون ثوباً ديمقراطياً أكثر نضارة وزهواً من خلال تأسيس حزب سياسي يكفل لهم دستورياً ممارسة شتى ألوان الأنشطة المدنية, والمشاركة بالعملية السياسية, وإنشاء الجمعيات والمراكز, وإصدار الصحف, ومد جسور العلاقات الداخلية والخارجية وفقاً للقانون وأسوة بالأحزاب اليمنية الأخرى. فأي مشروع لسلام دائم في صعدة حتماً سيتعثر إن أصروا على تصنيف أنفسهم كحركة تمرد, نظراً لما يترتب على ذلك من وضع خارج الأطر الدستورية, ومن عوائق نفسية وثقافية تحول دون الاندماج المجتمعي في مكونات الحياة اليمنية وتفاعلاتها اليومية. إن القوى السياسية اليمنية المعارضة وإن بلورت أثناء الحرب السادسة مواقف بشأن صعدة - بدت بعضها بتقديري غير نزيهة - إلا أنها بعد انتهاء الحرب لم تبادر إلى لعب دورها المفترض في تهيئة مناخات عودة الحوثيين إلى حركة سياسية مدنية رغم وجود دعوة رئاسية للحوثيين بذلك. بل إن أحزاب المعارضة اتجهت لاحقاً إلى التنسيق مع الحوثيين بصفتهم متمردين كما هو حالها مع الحراك للاستفادة من ثقلهم, مع الحفاظ على تفردها كأحزاب قائمة بموجب القانون تمثل الواجهة الأصلية للحراك الديمقراطي الذي يخوّلها التنسيق المباشر مع المنظمات والهيئات الدولية بجانب السلطة. من الواضح أن عدم نضوج قوى الحراك السياسي الديمقراطي اليمني يسهم بشكل كبير جداً في تغليب الحسابات الضيقة على المصالح الوطنية, لذلك تغيبت المبادرات الرامية إلى تذويب الثقافة السلبية التي نشأت في مرحلة الصراع في صعدة. فإن كنا نتحدث عن مشاريع مذهبية أو مناطقية أو إمامية بأثر رجعي, فلماذا لا نتّجه إلى خيارات البناء الديمقراطي والممارسات المؤسسية والتحولات المدنية التي من شأنها منع أي تقوقع ثقافي وإنعاش التفاعلات المجتمعية وتنمية ثقافة وطنية تفاعلية!؟. يجب أن تعمل أقلامنا ومنابرنا جميعاً على طمس المسميات والتوصيفات التي لا تمت إلى الهوية اليمنية, وتعزز الثقافة الانعزالية التي تبدو فيها منطقة ما أو تكوين سياسي كما لو أنه كيان مفصول عن الجسد اليمني, فليس من الحكمة إطلاقاً أن يبقى الحوثيون حاملين أسلحتهم في بلد متسامح يكفل الحريات للجميع. فلنلقِ السلاح جانباً, ولنحمل المعاول ونبني ونزرع ونكفكف دموع أطفال صعدة, فكلنا تواقون لاحتضانهم، غير أن المتارس ورهبة السلاح تخطف منا أمانينا.