تنهد بعمق وهو يطالع الشارع من نافذة التاكسي..كان يخيل إليه أحيانا أن الدنيا خلقت فقط من اجل عذابه ومعاناته، ابتساماتها له قليلة جدا .. ولا تجود بإحدى هذه الابتسامات إلا وتلتها بلطمات وركلات يئن لها بوجع.. ولكنه مع التكرار أصبح معتادا فحتى الألم يصبح عند التكرار حياة مقبولة..ضل يتذكر محطات المعاناة في حياته فإذا به يستعرض حياته بأكملها..فلقد تخرج بمعدل ضخم ولكن تم تجاوز دوره لثلاث سنوات متتالية حتى أصيب باكتئاب حاد وأصبح الناس يسمونه عند الحديث بينهم عنه ب"الحالة"، وفي يوم كان يعبر فيه الشارع وقد طالت لحيته وأصبح منظره غريبا ظهرت له سيارة تسير بسرعة جنونية عكس اتجاه السير حاول تجنبها ولكنه تجمد من الدهشة عندما لاحظ أن السيارة تسير بلا سائق..وفي اللحظة التالية كانت السيارة تقذف بجسده إلى الهواء ثم تدهسه ليغيب عن الوعي ولا يفيق إلا في المشفى. أكد جميع الأطباء أن نجاته هي معجزة حقيقية وان ما حدث له كان يجب أن يقضي عليه، أضاف احد الدكاترة وهو يضحك في وجهه بسماجة "لو كان عندك دم كان أنت مت"..وهناك أدرك الحقيقة فلقد كان فتى صغير يقود السيارة ولم يستطع أن يسيطر عليها لقصر قامته..بعد قليل دخل عليه رجل يظهر عليه من منظره ومن المرافقين من حوله انه شخص مهم..تقدم منه موضحا أن الفتى الذي دهسه هو ابنه وبرر له معتذرا"جهااااال" ثم أردف وهو مبتسم محاولا التبرير أكثر بأن ابنه ظن انه "خادم" أو "مطلب" فلم يبذل قصارى جهده لتفاديه خوفا أن تتقلب السيارة.. أمضى في المستشفى فترة طويلة ولكن الحادث وبرغم انه ترك أثرا لا يمحى وهو التسبب في عرج في رجله اليمنى إلا انه كان سبب سعده أيضا..فلقد اعتذر الأب عن"مجهالة"ابنه بمنحة للدراسة في الخارج فتحقق حلم صاحبنا وان كان الثمن أن تغير اسمه من "الحالة" إلى "الأعرج". تذكر أيضا بألم شديد عندما اكتشف أن المنحة لا تكفي للعيش في الخارج وكيف نجى من الموت جوعا بعد أن أغمي عليه في الشارع وأسعفوه إلى المشفى فاعتنوا به هناك وأعادوا إليه شيئا من آدميته..تذكر كيف ضاق به الحال إلى أن سكن في غرفة صغيرة في شقة يسكن بها أصدقاء له ميسوري الحال من "البلاد" مجانا..ليس مجانا تماما فلقد كان يدرك هناك ثمن..مثل تنظيف الشقة، غسل الصحون، وكم تألم وأحس بالقهر عندما اجبروه أن يذهب ليشتري لهم الخمر خوفا من أن يذهبوا ويراهم احد "الخبرة" ويبلغ أهلهم فكلف هو بهذه المهمة رغم انه لم يذق الخمر في حياته..ولأنهم يعطفون عليه بالسكن مجانا لم يستطع أن يقول لا..ثم تذكر في الم حقيقي وهو يتحسس مكانا غائرا في أسفل معدته ذلك اليوم الذي ذهب ليشتري لهم الخمر فامسك به رجل مخمور وطعنه في معدته..تذكر الألم الشنيع والإسعاف ثم كلمات الدكاترة عن المعجزة التي حصلت ببقائه حيا بعد هذه الطعنة. تذكر كيف أكمل دراسته وعاد إلى البلاد وضل يبحث عن وظيفة لمدة سنة وفي بداية السنة الثانية اشترك في اختبار لشركة أجنبية ضخمة للمنافسة على وظيفة ممتازة كانت حلمه للحصول على حياة أفضل..كافح كثيرا إلى أن ظهرت النتيجة بفوزه فقرر الاحتفال بتخزينة "جامدة"..لسوء حظه كان القات مسمما بشدة مما اضر به واستدعى إسعافه إلى الخارج بمنحة من الدولة استطاع أن يحصل عليها بصعوبة وهناك تمت معالجته مع تأكيد الأطباء على معجزة بقائه حيا مع كل كمية السم التي دخلت جسمه..ولكنهم أكدوا أيضا أن الكبد تضررت كثيرا مما حدث..وللأسف ففي خلال فترة العلاج لم تستطع الشركة أن تنتظر وسلمت العمل لمتقدم آخر. واصل استعراض شريط ذكرياته والتاكسي يقطع به شوارع المدينة ..تذكر كيف واصل البحث عن عمل لمدة ثلاث سنين أخرى..وبعد أن تراكمت عليه الديون وتوالت عليه الكوارث حتى ماتت أمه دون أن يستطيع أن يدفع تكاليف دفنها حتى كاد أن يقوم بالصياح في الجامع عقب صلاة الجمعة طالبا المساعدة إلا أن "وفي اللحظة الأخيرة" وصلت له حوالة متواضعة من خالة المغترب استطاع أن يدفن أمه بها..وبعد كل هذا حصل أخيرا على الوظيفة التي كان يحلم بها ..محاسب في شركة ضخمة لأحد أصدقائه الذين كان يدرس معهم ..كانت الوظيفة تذكرته للحياة المريحة ولكنه وكحياة يعيشها أصيب بمرض شديد في معدته وذهب إلى أكثر من طبيب قال له احدهم انه تلوث بسيط وقال له الثاني انه سرطان في المعدة وقال الثالث انه "مجرد وجع وحيروح"وعندما أغمي عليه وساءت حالته تماما خمن احدهم أنها قد تكون الزائدة الدودية وكان تخمينه صحيحا ولكنها للأسف كانت قد انفجرت. تنهد بعمق مرة أخرى..انتهى من استعراض شريط معاناته أو حياته..سيان، فلقد غادر المشفى اليوم وودعه الدكاترة وهم يقولون له أن نجاته معجزة حقيقية..أحس بنشوة قوية ولأول مرة في حياته.. أحس بسعادة غامرة وبأنه محظوظ فالشركة التي توظف بها دفعت تكاليف العلاج بل ومنحته راتب شهر مقدما وهاهي النقود في جيبه.. اكبر كمية نقود دخلت إلى جيبه..وبرغم آلام العملية أحس أن حظه يتحسن فلقد أنقذه من الموت لمرات وهاهو الآن يمنحه الوظيفة الجيدة والحياة الرغدة..أحس برضا عن حياته وفرح بالدنيا فطلب من التاكسي إيصاله إلى احد المطاعم الفاخرة في قلب المدينة فلقد قرر مكافأة نفسه بوجبة فاخرة..توقف التاكسي قرب المطعم..هم بالنزول وابتسامته تملا وجهه بل انه في تلك اللحظة داعبه خاطر جميل دغدغ عواطفه بأن ظروفه تحسنت إلى درجة ربما تدفعه للتفكير في الزواج..وفي اللحظة التي فتح بها الباب قطع خاطره الجميل صوت مثل الانفجار وأحس بالدنيا تتزلزل من حوله وفي اللحظة التالية شعر بنفسه يهوي وهو بداخل السيارة..هوى إلى قاع البيارة التي انهدمت لتبتلع التاكسي وتبتلعه..وفي اللحظات التي كان الماء الآسن يدخل إلى فمه ويقتله امسك بقبضته بقوة على النقود في جيبه وبرغم آلام الموت والغرق فقد ذرفت عينه دمعة قهر حارقة أراد أن يصيح قهرا فدخل الماء إلى أعماق رئته.. ووسط لحظات الموت مر في باله خاطر ساخر لئيم..لقد كان هذا المذاق الآسن النتن هو طعم الحياة..كل الحياة..والمؤلم انه أيضا كان طعم الموت.