تبدأ قصة إلياس خوري (مجمع الأسرار ) بلازمة كلامية ( بدأت الحكاية ) تتكرر في مستهل كل مقطع، وتعيد رواية الوقائع مجدداً على صورة حلقات حلزونية تضيق وتتسع. تستأنف الحكاية دائمًا من جديد، أو الأحرى، من زاوية أخرى، ومن زمن آخر، كأنما هي تتوالد وتتناسل من داخل بؤرة حكائية مستقلة عن انعكاساتها الواقعية، بؤرة تكشف بقدر ما تخفي، وتعكس الواقع لتوهمنا به. الخبر الروائي في قصة خوري هذه، كما سائر أقاصيصه، يبدو شديد الواقعية، ولكن ما أن نفرغ منه، حتى نتبين أنه كاذب، وإن ما يروى هو الكذب بعينه، هو الإيهام بالحقيقة، وليس الحقيقة في ذاتها، (هل نعرف السر حين نستمع إلى الكلام ؟ هل الكلام يخبر أم ينفي ) (ص 84). بهذا يتفوه الراوي الكاتب، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه البناء الروائي عند إلياس خوري. فالرواية لديه ليست رواية الحقيقة، إنما رواية الاحتمالات، شهوة إلى الكلام لا ترد إلى الواقع بل إلى رواية أخرى. يضعنا الكاتب دوماً في مناخ من عدم التصديق أن ما يحدث هو الواقع، يدفعنا إلى الريبة فيما يكتبه هو، وفيما نقرؤه نحن. وإذ لا حدود بين المعيش والمتخيل، ما دامت الحكاية تحل أحياناً محل الواقع، فإن رواية خوري تقول لنا بأننا غير قادرين على معرفة الحقيقة. وإن النص الذي بين أيدينا ليس محاولة لزعزعة يقيننا بهذا الواقع الذي نسميه واقعاً. والراوي ها هنا، غير واثق من حقيقة ما يرويه. وحيث يتماهى الراوي بالمؤلف لا يعود المؤلف قابضًا على زمام الموقف، وهو يضع نفسه في الموقع المحايد، ويغدو واحدًا من الرواة المحتملين، ومرجعًا من مرجعيات متعددة. وإذ لا يدري هل ما يرويه حدث بالفعل، أو هو متخيل أو مختلق، فإن اللايقينية هذه تدفعه إلى الحيرة والبلبلة التي تخلط عليه الأحداث وتشتبه الأسماء في ذهنه، فلا يميز بين ما وضعه الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في " قصة موت معلن " عن حكاية سانتياغو نصار، وما يكتبه هو عن عائلة يعقوب نصار في لبنان التي كانت تستعد للهجرة إلى كولومبيا. ويتساءل : (من كتب الرسالة ؟ ما العلاقة بين جريمة قتل حصلت في كولومبيا، وبين هذه العائلة التي باعت الأرض في (عين كسرين ) وكانت تستعد للهجرة النهائية إلى أميركا الجنوبية ؟ هل كان الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يعلم حين كتب روايته (قصة موت معلن) انه يكتشف سر تلك الرسالة الذي بقي غامضاً فترة طويلة، أو حكاية ماركيز لا علاقة لها بموضوعنا، وصلتها الوحيدة به هي الأسماء التي قد تتشابه وتتكرر ؟ )، لا يعود الراوي الكاتب أمام هذا الالتباس مسيطراً سيطرة كلية على فضائه الروائي. ولا يبقى متقلداً سلطة الكلام كصوت سردي وحيد. ثمة مسافة أو هوة عميقة بين المؤلف ونصه. وكأنما النص يتحرر من كاتبه، ويتملص من قيوده، ويسخر من ادعاءاته بالقدرة المطلقة، ويغدو الراوي الكاتب جزءاً من نسيج الأحداث، خاضعاً لوطأتها، معرضاً للنسيان والشك والتضليل. ما يدفعه إلى خلخلة الفواصل بين الأزمنة والأمكنة والأشخاص وبين المنام واليقظة. وبين التمثيل والواقع. بين البريء والمجرم، ويظهر أن تبادل الأدوار، أو الالتباس بين حنا السلمان (المالح) البريء، وفيكتور عواد القاتل، يمثل صورة ناصعة عن هذا الخلط ذي البعد المأسوي. فحنا هذا الذي أرغم طوال الرواية على أداء الدور، ظن في النهاية لشدة ما عانه انه لم يمثل دوراً، بل مارس حياة السجن كمجرم حقيقي. وحين ذهب لحضور إعدام فيكتور عواد شعر كأنه هو من سيعدم )، حضر المحاكمة وذهب إلى حيث مثل عواد جرائمه، وكان يشعر أنه من الممكن أن يكون هو. رأى المجرم الحقيقي يمثل الجرائم التي سبق له أن مثلها، وخاف من الحقيقة، واقتنع أن الإنسان يمكن أن يكون أي شيء، وإن القضية برمتها مجرد مصادفة ) ص (169)، وحيث الرواية تزيل الحد بين الواقعي والمتخيل أو المحتمل، تدخل القارئ في دوامة السؤال المفتوح عن المنطقة البرزخية بين هذين القطبين. واعتدنا بما ورثناه من مفاهيم وتصورات ان نفرق بينهما تفريقاً حاداً. الرواية إذن تناقض ما ألفناه وتقول ما يخالف قناعاتنا، وحيث نريد ان نقرأ ما يجلو الغموض، ويبسط الحقائق تطمس الحدود، وتحجب، وتواري، بدل أن تبين وتكشف. تبدأ بموت (إبراهيم نصار) وتقفل أو، الأحرى، تفتح مجدداً، (لأن كل نهاية في الرواية بداية لنقطة أخرى) على سلسلة من الأوهام والحكايات المحيرة. بيد أن هذا الاختلاط بين الواقعي والوهمي في ( مجمع الأسرار) لا يقلل البتة من علائقها بالحاضر أو بالماضي، فالواقع في الرواية الذي يتناول، في وجه خاص، حقبة الخمسينات، حاضر بقوة، وبكل كثافته التفصيلية اليومية، بصفته انه فترة مرجعية تضغط على تشكيل المسار أو المنحى الذي اتخذته الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 في ما بعد، غير أن استحضار هذا الواقع أو تلك الفترة يمر من طريق الذاكرة، أي من طريق التصفية وإعادة التركيب والمزاوجة بين الصورة الواقعية والصورة المتخيلة. كذلك يقارب إلياس خوري الأحداث لا كما هي تنعكس في الذهن السلبي، وإنما من خلال إعادة توزيعها وتقطيعها، وتنويع مساراتها ومستوياتها السردية، فيتمظهر الواقع لا كما كان، بل كما هو معاد إنتاجه في نص متعدد الطبقات والكثافات. ويسعى القاص في مواضع من روايته إلى (التدخل) موضحاً مدلول تسميتة أو خبر ما، بالإحالة على كتابات وأخبار صحافية، وربما وثائق تاريخية، مثل معنى اسم بلدة عين كسور كما ورد في كتاب ( معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية ) لأنيس فريحة، وحورها إلياس خوري إلى (عين كسرين) وأخبار إصلاح السجون اللبنانية نقلًا عن الصحف اللبنانية الصادرة عهدئذ. وكذلك استعادة أحداث 1860، وتقصي حكايات المهرب الشهير سامي خوري. ووصف مراحل نزوح بعض العائلات اللبنانية من مواطنها الأصلية إلى لبنان. فالكاتب لا يخرج رواياته ولا أبطاله من السياق التاريخي والأحداث العاصفة، ولا يحررهم من الإيديولوجيات الدينية والعصبوية والعائلية التي تضغط على أعناقهم وعقولهم. فهو خصص بالحرب الأهلية اللبنانية جل رواياته وأقاصيصه السابقة، وهنا في (مجمع الأسرار ) وإن لم يمض على الحرب الأهلية 75، مثلما درج في رواياته السابقة، فإن تحديد زمن الرواية ومن الصفحة الأولى بالسادس من كانون الثاني 1976 والعودة المتكررة إلى أحداث 1860 لا يخلوان من دلالة ارتباط وثيق تجمع الحربين في سياق واحد، ويجعلان من الحرب الأخيرة فرعاً من جذع أو بنية من العلاقات السلطوية المتجذرة في تاريخ لبنان. وتغدو حكاية الحرب الأخيرة حكاية محتملة الحدوث في كل آن. كيف سيؤرخ المؤرخون لتلك العشية، هل بدأت الحرب عام 75، أو عام 73 أو 68، أو عام 67 أو عام 58 أو عام 1860 ؟. ( لا أدري كل العشيات تصلح أن تكون عشية لتلك الحرب الطويلة التي دمرت كل شيء) ص (185). والقاص في ما يكتب ينحو إلى الكشف عن الشروخ في قلب العلائق الاجتماعية والسياسية، ولا يتوانى في إظهار الثقوب في الجسد السياسي، عبر إدانته الجهاز القمعي للدولة التي عذبت بريئًا مثل حنا سلمان في السجن، حتى أوصلته إلى حافة الإعدام والجنون، وغضت النظر أو تواطأت مع مهرب عالمي مثل سامي خوري. كذلك يعرض بالسلك الكهنوتي عندما يرتشي الكاهن، فيدفن الميت دون إجراء الطقوس المفروضة دينيًا. وفي روايته يعنى الكاتب بموضوع الغربة داخل الوطن وخارجه، كما بأمور واقعية أخرى. هذا (الحضور ) التاريخي والواقعي الملموس في الرواية لا يمكن مقاربته مباشرة، كما لو أننا نقرأ رواية واقعية، إذا جاز اليوم هذا التصنيف الجازم، بل إن الكاتب لا يقدم طبقاً واقعياً جاهزًا، ولا موضوعاً متكاملاً، وإن غزل قصته من خيوط الواقع فهو يبعثرها ويشبكها، يشظي حكاياته، ويكسر زمنه. ويبدد موضوعاته، وان كان ثمة من علاقة بين الكاتب والقارئ فهي علاقة متباينة. حيثما يسعى الكاتب إلى التفتيت والتقويض والهدم، ينهض القارئ بأعباء الردم والتركيب والبناء، ووصل ما انقطع، وجمع ما تشتت. كذلك شأن وحدة موضوع الرواية، فثمة أحداث أو بؤر حكائية تتمحور حول شخصيات، مثل حنا وإبراهيم ونورما وسارة وسامي خوري وفيكتور عواد وجوليا وعباس ومنير وأحمد. ووقائع محددة : موت إبراهيم، سجن حنا، اختفاء نورما، إلا أن سمة هذه البؤر أو الأحداث : الاحتمالية والتعددية، وتكرارها الحلزوني، وقابلية وقوعها على أكثر من وجه وصورة. الرواية ذات مراكز متعددة، ولكل مركز أو بؤرة حكائية خصوصيتها ودلالاتها الذاتية المستقلة من جهة، لكنها من جهة اخرى متعلقة، دون العلاقة العضوية، بالنسق التخيلي السائد والمهيمن على مجمل الفضاء الروائي العام. ومتداخلة بأصل أو أصول حكائية مفترضة، وبمفاصل زمنية ومكانية، وعناصر تعريفية دقيقة. واللافت في رواية إلياس خوري انسجاماً مع تعدد المراكز والبؤر الحكائية، غياب البطل (المركزي ) الأوحد إزاء البطولة المتعددة والمتنوعة، وإن بدا أحياناً أن الضوء يسلط على حنا السلمان، فإن مأسوية مصيره هي التي توحي بهذا. وشخصيات هذه الرواية ليست مختلفة عن سائر شخصيات خوري في رواياته الأخرى، ببعدها عن النمطية والنموذجية والقولبة، واقترابها من المواقع الشعبية المهمشة، ومن المعاناة المعيشية اليومية التي تطحن أجسادها وعقولها وتشوه نفوسها وتعبث بمصائرها. شخصيات في قلب السياق التاريخي وخارجه في آن، لأنها منهمكة بترتيب شؤونها الصغيرة ونزواتها التافهة، ومحاصرة بعقدها النفسية ( نورما) المترددة، المازوخية، و(سارة) العانس، و( جوليا) المتوهمة، إلى (حنا) الغريب، و( إبراهيم)، المتوحد والمحبط. كذلك تتراجع اللغة الحوارية في (مجمع الأسرار ) إلى درجة من العامية، والسوقية أحياناً، فتنم عند الشخصيات بالنوازع والنزوات الدفينة المتحللة من أهابها الاجتماعي، والمعبرة عن عمقها الباطني الحار.