الأصل في التشريعات -خصوصا- المنظمة للحريات العامة أن يكون اتجاه تطورها ايجابيا، وأن أي تعديل يطرأ عليها لا يمكن بحال أن يكون سلبيا لان ذلك يتصادم مع ما تشهده المجتمعات الإنسانية من تطورات، ويؤشر على وجود اختلال كبير في نقطة التوازن بين الحرية والسلطة لصالح الأخيرة. صحيح أنه لا يمكن أن يولد التشريع مكتملا، بل لابد أن تشوبه بعض النواقص والتجاوزات على الحرية التي ينظمها هذا التشريع كبعض القيود -إجرائية أو موضوعية- والتي قد لا تكون مقصودة بحد ذاتها، أو لا تكون من الظهور بحيث يمكن لغير المختصين إدراكها، وإذا ما صدرت ودخلت حيز النفاذ، وكشف التطبيق العملي الثغرات التي تعتورها جدت السلطة المختصة في رصدها والتقاطها ومتابعتها من خلال ما تكشف عنه الدراسات والبحوث والندوات التي تخصص لبحث مشكلة ما فيها، وما تبديه الشرائح الاجتماعية التي تحكمها هذه التشريعات من ملاحظات وشكاوى حولها، كل هذه المعطيات تضعها السلطة المختصة في اعتبارها فإذا ما اتيحت الفرصة لإعادة النظر في هذه التشريعات، سارعت إلى العمل على تنقيتها من كل الشوائب إن كانت التنقية ستحقق هذا الهدف، وإذا لم تكن كذلك فلا مناص حينها من استبدالها بحيث يراعى في ذلك تجنب السلبيات السابقة، وتضمينها ما أستجد من تطورات للحريات التي تنظمها. وتعد الحريات العامة كل لا يتجزأ وتتأثر كل منها بما يطرأ على الأخرى من تحسن، أو ما تتعرض له من انتهاك، وفي ظل هذا الترابط وبفعل تطوراتها المتسارعة، وانتشارها الواسع، تؤدي الصحافة دورا محوريا في حماية بقية الحريات والدفاع عنها، ولذلك تصاب هذه الحريات بالشلل إذا ما تعرضت حرية الصحافة- بوصفها اللسان المعبر عن هذه الحريات- لأي اعتداء. ولازالت باقية عبارات بعض المدافعين عن حرية الصحافة رغم مرور عقود من الزمن عليها فهذا الأستاذ/ هوريو عضو الجمعية الوطنية الفرنسية الذي وقف مدافعا عن حرية الصحافة عند محاولة المساس بها موجها تساؤلاته إلى الحكومة و الجمعية الوطنية قائلا (...ماذا سيكون مصير حرية التفكير بدون الحرية الفردية؟ وحرية التعبير عن الرأي بدون حرية الاجتماع؟ وحرية المواطنين في اختيار زعمائهم بدون حرية نقدهم؟ وماذا سيكون مصير هذه الحريات جميعا بدون حرية الصحافة؟) ولنا هنا أن نتساءل هل لحرية الصحافة من يدافع عنها في مجلس نوابنا ؟ بل هل هذه الحرية على قائمة اهتمامات أي من أعضائه كما هو شأن الأستاذ هوريو أو أكثر قليلا!؟ وخلال الأيام القليلة الماضية وبعد مخاض عسير أتحفتنا وزارة الأعلام بمشروع قانون مشوه، ليس خلقيا كما هو حال المولود السيامي برأسين، بل بأربعة رؤوس، وأربعة أطراف علوية وسفلية، وبفعل متعمد الهدف منه كما يبدو طمس حدود ومعالم الكائن الوليد حتى لا تكون هناك فرصة لنجاح أي تدخل جراحي يستهدف فصل مكوناته، لإقناع الآخرين بالقبول به بالحال التي هو عليها، والحق أنها قد أحسنت- دون أن تدري- لان فرص بقائه- بهذه الصورة- حيا بعيدا عن حاضناتها الصناعية يعد أمر صعبا ومرهقا لها وللصحفيين معا، لذلك فمن المؤكد أن تتدخل العناية الإلهية لتريح الجميع من هذا المولود النحس، ويحمله النواب إلى مثواه الأخير غير مأسوف عليه. وليس من المبالغة القول أن هذا المشروع قد أهدرما يقرب من 80% من الضمانات التي كفلها قانون الصحافة النافذ- التي لا يتسع المجال لسردها- سواء تعلقت هذه الضمانات بحرية إصدار الصحف ذاتها أو بحرية ممارسة النشاط الصحفي ويكفي هذا المشروع سوءا أن نشير- وعلى سبيل المثال- إلى حالة واحدة تتمثل في تمسكه بسئيات القانون النافذ- وإهدار حسناته- بتبنيه لذات الحكم الوارد في البند الثاني من المادة (36) من هذا القانون بعد عقد ونصف من نفاذه مخالفا بذلك ما سارت عليه تشريعات الدنيا وما تقضي به القواعد العامة من اعتبار سكوت جهة الإدارة بمثابة الموافقة الضمنية. ويقضي الحكم السابق بأن مرور أربعين يوما على تقديم طلب الحصول على ترخيص بإصدار الصحيفة يعد قرارا ضمنيا برفض هذا الطلب!! وإذا كان من المقبول أن نتفهم بعض التشدد في الجانب الموضوعي كتشديد العقوبات لمبررات تعتقد وزارة الإعلام أن من شأنها الحد من جرائم النشر، فإن مالا يمكن فهمه أو تفهمه هو استمرار تكريس نهج التحكم في حرية إصدار الصحف دون مبرر منطقي فكيف يمكن اعتبار الصمت رفضا؟" وهل ينسب لساكت قول؟" وإذا ما شكى صاحب الشأن صمت الوزارة إلى القضاء! وما أدراك ما القضاء! فهذا الشاكي لا يقف على أسباب الرفض ليبني على أساسها دعواه!! وهو ما سيجعله تائها لفترة من الزمن بين أروقة المحاكم، ودهاليز وزارة الإعلام!! هل هناك ثمة سبب منطقي يبرر استمرار العمل بالحكم السابق؟ اليس الأصل-وفقا لمبدأ تطور التشريعات والمجتمعات- أن يتم استبداله بحكم أفضل منه يستبعد تماما نظام الترخيص الإداري السابق لإصدار الصحف، واستبداله بنظام الإخطار بوصفه أكثر تطورا و أكثر اتفاقا مع النظام الديمقراطي، ومنطق الحرية، وأكثر انسجاما مع حرية الصحافة!!؟ إن ما صدر عن وزارة الإعلام لم يكن مشروعا لقانون واحد، بل مشروعات لأربعة قوانين أولها للصحافة، وثانيها للمطابع ودور النشر، وثالثها لنقابة الصحفيين ورابعها للعقاب!!! كيف يمكن أن تنظم حرية الصحافة بموسوعة قانونية من هنا وهناك؟ وما شأن المطابع ودور النشر (وهي نشاطات تجارية) بحرية الصحافة (التي تعد نشاطات فكرية)؟ وما شأن هذه الأخير بالنشاطات المهنية (النقابية)؟ وما جدوى نقل قانون العقاب إلى قانون الصحافة؟ لما كل هذا العبث والخلط بين التشريعات شكلا ومضمونا؟