"ليست ثورة زنوج" يجمع المؤرخون والباحثون المنصفون- عرباً وأجانب- أن الفكر المعتزلي هو الصفحة المشرقة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي- أما أزهى عصر للحضارة الفكرية والعلمية فقد حصروه على عهد ثلاثة خلفاء متعاقبين في الدولة العباسية، هم المأمون، والمعتصم، والواثق.. ويعود ذلك إلى انفتاحهم على الفكر المعتزلي، وتعاونهم مع أعلامه، إلى درجة إشراكهم في شؤون الدولة والاعتماد عليهم وانتهاج نهجهم العلمي العقلاني. بعد هؤلاء الثلاثة.. كان الانحدار السريع في وحل الانحراف والفساد، والخنوع، أي مع بداية مرحلة الخليفة المتوكل، الذي مال إلى الفكر السلفي النقلي المتحجر المنغلق.. في محاربة وقمع واضطهاد العلويين والفكر المعتزلي وعقلانيته التي تجعل العدل أحد أركانه أو أصوله الخمسة.. ولكي يحقق ذلك، فقد اعتمد على الموالي من الجنود الأتراك، وقادتهم الذين سرعان ما استغلوا ضعفه وابتعاده عن الفكر القومي العروبي المعتزلي، فسيطروا على مفاصل الإمبراطورية العربية العباسية وأوغلوا في أطماعهم وفسادهم، وهيمنوا حتى على الخليفة أو الملك المتوكل الذي تذمر الشارع من خنوعه للأتراك، ووثق شعراء العصر ذلك وكيف صار دمية في يد قادة الجند الأتراك.. الذين لم يكتفوا بخنوعه وطاعته، فأقدموا على قتله، ليصبح الملك العباسي مستباحاً تابعاً لإرادتهم في التولية والخلع بالقتل والسجن والسم.. بعد المتوكل ولي الخلافة المنتصر بالله وهو شاب في الخامسة والعشرين.. ولكنه ذو بصيرة وغيرة ويريد استعادة سلطة الخليفة، فتوجه نحو ذلك ورفع الاضطهاد عن العلويين وعن المعتزلة وأوقف ملاحقتهم والزج بهم في السجون حتى بتهمة زيارة قبر الحسين عليه السلام وحاول أن يبني دولة لا يهيمن عليها الأتراك، ولكنهم لم يمهلوه أكثر من عام، حيث تآمروا على قتله بالسم عبر طبيبه "الطيفوري" ولاحقوا جميع رجالاته وأعوانه بما فيهم علي بن محمد الذي ألقي به في السجن، إلى أن تخلص منه وفر إلى "هجر" عاصمة البحرين ليعلن من هناك أهم وأكبر ثورة عربية في وجه هيمنة الموالي للأتراك، كما سنوضح لاحقاً.. بعد المنتصر بالله "المسموم" ولي المستعين بالله فخلعه الأتراك وقتلوه، كما حدث لمن خلفه وهو المعتز بالله فقد خلعوه أيضاً وسجنوه وقتل في السجن، ليأتي بعده المهتدي بالله، الذي خلعه الأتراك وعذبوه وقتلوه قبل أن يكمل العام من خلافته، لأنه كالمنتصر بالله، أراد أن يصلح وان يبني دولة عربية لا يحكمها الموالي الأتراك.. هكذا كان الحال، فيستشعر القائد العالم الشاعر علي بن محمد مسؤوليته إزاء شعبه وعروبته وإسلامه فيتخلص من سجنه- كما أسلفنا- ويتجه إلى البحرين ليعلن الثورة في وجه الفساد وهيمنة وطغيان الموالي الأتراك، وضعف وهوان الملوك أو الخلفاء العباسيين الذين قبلوا بذلك الوضع، مقابل الجلوس على عرش قوامه الفساد والذل والتبعية. وبدافع الغيرة على السيادة، ونصرة الحق والعدل، أعلن ثورته العظيمة من البحرين، لتجد تجاوباً عربياً وإسلامياً وتجد الأنصار المؤمنين بأهدافها ورايتها البيضاء المكتوب عليها "أحد أحد" فتتسع من البحرين إلى الإحساء إلى البصرة إلى بغداد وقبائل الحجاز، والأهواز وعبدان وبعض مناطق فارس، فما كان من السلطة المهيمنة من جند وقادة الأتراك، ومن يسمونهم بالخلفاء العباسيين إلا أن يتصدوا لها يواجهونها بكل قسوة وعنف وجرائم بشعة، وان يستعينوا بكتاب التاريخ الذين تم إغراءهم أو رهابهم ليسيئوا إلى الثورة وقائدها الذي كان لا يذكرونه إلا بأبشع ألفاظ الشتم والسباب، وتحريض العوام عليه وعلى ثورته، التي وصفوها أولاً بأنها ثورة خوارج، ثم بأنها ثورة علوية انتقامية من العباسيين، ثم الصقوا بها تسمية "ثورة الزنج" مع أنها ثورة تذمر ورفض هيمنة، تنطلق من مطالب عدل ومساواة وتصحيح لانحراف أصاب الدولة عبر حكامها الضعفاء الفاسدين، كما سبقت الإشارة.. صحيح أن الزنج أو العبيد الذين كانوا يعملون في الأرض الزراعية في البصرة.. والذين كانوا يعانون أبشع صنوف الاضطهاد والعذاب، قد وجدوا فيها بارق عدل ومساواة فانضموا إليها وكانوا من أفضل المقاتلين في صفوفها، ولكن هذا لم يتم إلا بعد سبع سنوات على اندلاعها من "هجر" في البحرين، ومن مناطق الإحساء، وفي هذا ما يؤكد عدم صوابية تسميتها بثورة الزنج، وإذا كان من سبقونا قد قبلوا بهذه التسمية فإنه أمر فيه نظر، خاصة ونحن في عصر البحث العلمي المنهجي لوقائع التاريخ والتراث، كما أنها الثورة الوحيدة- من بين الثورات التي اندلعت في العصرين الأموي والعباسي- التي استمرت دون انقطاع أكثر من عشرين عاماً، وأقامت دولة لخمس عشرة سنة، فلم تكن ثورة زنج، بل ثورة عارمة من أجل العدل والحرية ورفض سيطرة الأعاجم. * إنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد في "ورزنين شمال إيران" وأمه من بني أسد، جدها محمد بن حكيم الأسدي من الكوفة واحد الثوار الذين ثاروا خلف الإمام زيد بن علي، ضد بني أمية..