بعدما وصل رسول الله «صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمين وثبت أركان العقيدة وأوضح معالم الرسالة بجملتها وتفصيلاتها حيث أعلن المشروع الإلهي الأعلى قال تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً» وبإعلان السماء بنبأ كمال التشريع وإتمام النعمة وارتضاء الإسلام منهجاً خالداً للأرض وقد تأكد هذا في خطبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجامعة التي ألقاها بعد عودته من حجة الوداع حيث اجتمع الآلاف من أبناء الأمة الإسلامية وخطب فيهم خطبة الجامعة التي ضمنها كل ما حوته الرسالة المقدسة من أسرار معالم وقوانين وأحكام وطالبهم الالتزام بها ثم أكد إمامة أمير المؤمنين علي «ع» ورجع رسول الله الى يثرب وانصرم شهر وألم بسيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه حمى شديدة رافقته أربعة وعشرين يوماً- بأبي وأمي هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقد بعث بالجيوش لتوسيع الرقعة الإسلامية وتحطيم الطواغيت وإحقاق الحق في إظهار دين الله القويم والحجة على الكافرين ليظهره على الدين كله وبعث أسامة بن زيد في أضخم جيش إسلامي لدك عروش الكفرة والطواغيت في الدولة الرومانية آن ذالك برغم صغر سنه وقد اشيع انه ليس أهلاً للقيادة فألزمهم بالالتحاق به صلوات ربي وسلامه عليه وآله الأطهار في مرض الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. وهنا يزيد الذهول على أهل البيت وفي طليعتهم سيدتنا فاطمة الزهراء «ع» فقد أحاط بها الحزن والأسى والألم على أبيها وكانت تزور أباها في مرضه فتبكي وتتألم لكن الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتألم لألمها ولبكائها ويخفي توجعه رأفة ورحمة بها ملء الأكوان على ابنته الطاهرة الزكية فاطمة الزهراء في يوم من أيام مرضه صلوات ربي وسلامه عليه قام بضم فاطمة «ع» واسر إليها حديثاً فترفع رأسها ودموعها تنحدر من عينها الكريمة على خدها الرحيم وتأخذ منها مأخذها ثم يضمها أخرى إليه وحدثها حديثاً فتبتسم ابتسامة فرحت لها السماوات والأرض ويمتلئ الحاضرون عجباً من هذا الحديث بينها وبين أبيها خير خلق الله محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد موت رسول الله سألها من شهد هذا الموقف من الصحابة فتجيبهم على أن أباها محمدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نعى نفسه لها فبكت لبكائها ملائكة السماء والأرض فأخبرها بأنها ستكون أول السابقين من أهل بيته لحاقاً برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسرت وضحكت سلام الله عليها وامتلأ قلبها فرحاً وسروراً ورضاً بذلك ويدعو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لولديه الإمامين الحسن والحسين وهما يمتلأن لوعة وآسى وحرقة على جدهما المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهما سيواجهان حياة جديدة خالية من عطف وحنان ورحمة سيد الأنام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضمهما جدهما المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى صدره ويقبلهما وعيناه تذرفان دموعاً وشفق الإمام علي على أخيه رسول الله فيسرع إليهما لينحيهما عن جدهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكن جدهم المصطفى المختار يواجه عليًا بنبأ غيبي يا علي دعني اشمهما ويشمانني واتزود منهما ويتزودان مني أما أنهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلماً فلعنة الله على من يظلمهما، وهنا الرسول الأعظم يؤكد لزائريه من صحابته قيمة الحسن والحسين فضلاً عن أهل بيته فيقول:«أيها الناس يوشك أن يقبض علي قبضاً سريعاً وقد قدمت إليكم القول معذرةً إليكم إلا أني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي». ويزداد الحاضرون من الصحابة وأهل بيته ألماً وحسرةً ويضج أهل بيت رسول الله وأصحابه بالبكاء ويدعو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخاه علياً ليضع رأسه في حجره ويفارق الدنيا آخر عهدٍ به الإمام علي وصيه عليه السلام وما هي إلا لحظات وتعلن الأرض والسماء وفاة الهادي البشير النذير والرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونبأ انقطاع الوحي عن الأرض، وافتقاد المنقذ والرحمة المهداة والمحرر للإنسانية برمتها صلوات ربي وسلامه عليه وآله الأطهار ويبلغ النبأ بضعة المصطفى المختار سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام فتهب مذهولة من شدة الصدمة العنيفة فتضج بالبكاء والمدينة بأكملها وهي تردد أبي وا أبتاه إلى جبريل أنعاه، وا أبتاه جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه أجاب رباً دعاه إلى آخر الأبيات، وهي تعيش سلام الله عليها هذه الفاجعة في فراق أبيها المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاندفعت سلام الله عليها بحسرات وآهات ولوعة وبكاءً ودموع غزيرة تنسج من حزنها شعراً: اغبر آفاق السماء وكورت شمس النهار واظلم العصران والأرض من بعد النبي كئيبة أسفا عليه كثيرة الرجفان فليبكه شرق البلاد وغربها وليبكه مضر وكل يماني لأنها سلام الله عليها صورت الحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تصويراً حقيقاً لا خيالاً أو مبالغة لان أباها المصطفى المختار كان لهذا الكوكب ومن فيه سراجاً وهاجاً ونوراً اضاء لنا السبيل وخلصنا من التيه والشرور وعلمنا دروب السعادة والسلام صلوات ربي وسلامه عليه وآله.. وبعدها تولى أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام غسله وجهزه هو وعمه العباس بن عبدالمطلب فجاء بعد أذان الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث يدخل الإمام علي وجماعة من اهل بيته ويقفون بإزاء رسول الله حيث يتلو الإمام علي عليه السلام قوله تعالى: «ان الله وملائكتهُ يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً». ويردد من حظر هذه الآية نفسها ثم يأمر الإمام علي الصحابة بالدخول على رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وسلم جماعة بعد جماعة وهي بمثابة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وتولى الإمام وأهل بيته عليه السلام مواراته في قبره الشريف وبعد دفنه ازداد حزن الزهراء «عليها السلام» واخذ الأسى والحزن مآخذه من نفسها فراحت تنشد الأبيات المحزنة لتعزي بها نفسها فقال: قل للمغيب تحت اطباق الثرى ان كنت تسمع صرختي وندائيا صبت عليا مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا قد كنت ذات حمى بطل محمد لا أخشى من ضيم وكان جماليا فاليوم اخضع للذليل وأتقي ضيمي وادفع ظالمي بردائيا فإذا بكت قمرية في ليلها شجناً على غصن بكيت صباحيا فلا أجعلن الحزن بعدك مؤنسي ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا ماذا على من شم تربة أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا وهكذا عاشت رضوان الله عليها وسلامه عليها مأساتها وتجلببت بجلباب من الحزن وجعلت منه سلوة لها حيث روي عنها انها سلام الله عليها ما وجدت مبتسمة بعد أبيها المصطفى المختار صلوات ربي عليها وعلى بعلها وبنيها حتى زارها الموت والتحقت بعميدها الهادي البشير النذير والرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكفكف دموعها ويضمد جراحها. وروى المؤرخون: قبل وفاتها أنها أوصت الامام علي عليه السلام ان يدفنها سراً ولا يعلم احد من الصحابة في يثرب وقد نفذ امير المؤمنين وصيتها وحين توفت عليها السلام تولى أمير المؤمنين عليه السلام تغسيلها ومعه الامامان الحسن والحسين واسماء بنت عمير خادمتها فضة والامامان الحسن والحسين عليهما السلام يجلبان الماء وحدهما، ثم صلى عليها وفي الليل دفنها امير المؤمنين وقد روى المؤرخون ان الامام علي عليه السلام قد حفر في البقيع عشرين قبراً ولم يعلم احد من الصحابة او المسلمين اين قبرها إلى يومنا هذا. وحكي انه لما توقيت الزهراء عليها السلام حزن أمير المؤمنين عليه السلام لفقدها حزناً عظيماً وانفرد بالعزاء وحده واحتجب عن الناس لمدة طويلة فاجتمع عدد من الصحابة وقالوا: ان علي بن ابي طالب إمامنا وولينا وامير المؤمنين وقد احتجب عنا وصرنا لا نراه إلا في وقت أداء الفرائض فمضوا إلى الإمام علي عليه السلام وعين عمار بن ياسر رضي الله عنه فاستأذنوا من الإمام علي عليه السلام فقال له عمار بن ياسر رضي الله عنه يا إمام علي يا سيدي ما بالكم تأمرون بالصبر على المصيبة ونراكم تجزعون فقال له الامام علي عليه السلام: يا عمار ان العزاء عن مثل من فقدته لعزيز يا عمار لما فقدت رسول الله كانت فاطمة الزهراء عليها السلام هي الخلف منه والعوض عنه وكانت صلوات الله عليها اذا نطقت ملأت سمعي بكلامه وان مشت حكت كريم قوائمه فوالله يا عمار ما أحسست بوجع المصيبة إلا بوفاتها وما احسست بألم الفراق إلا بفرقها فانشد شعراً فقال: مالي وقفت على القبور مسلماً قبر الحبيب فلم يرد جوابي أحبيب مالك لا ترد جوابنا انسيت بعدي خلة الاحباب يريد الفتى ألا يموت خليله وليس له إلا الممات سبيل أرى علل الدنيا علي كثيرة وصاحبها حتى الممات عليل واني لمشتاق إلى من احبه فهل لي إلى من قد هديت سبيل؟ فسلام الله عليها حين ولدت وحين توفت سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه وآله الأطهار.