كنت قد تطرقت قبل عدة سنوات إلى مضمون هذا المقال لكن لأهميته فقد استحسنت إعادة التذكير ببعض ما جاء فيه كون الأحداث تعيد نفسها ولأن ما يجري على بلدنا اليوم من عدوان ظالم وصراع مرير على الأرض اليمنية هو مرتبط بما يحاك ضد اليمن من مؤامرات يتم صناعتها في الخارج وتصديرها إلى الداخل خاصة بعد أن دخل اليمن بقيادته الثورية وشعبه وقواته المسلحة في مواجهة مباشرة مع أمريكا وربيبتها إسرائيل إسنادا ودعما لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذين يتعرضون لجرائم الإبادة الجماعية منذ ما يقارب اثنين وعشرين شهرا على أيدي الجيش الصهيوني بدعم أمريكي وغربي وفي ظل تخاذل عربي وإسلامي. إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل ويجب أن نقف أمامها طويلاً للتأمل تتمثّل في أن هناك توجهاً إقليمياً ودولياً يمنع اليمنيين من بناء دولتهم القوية الحديثة وهو توجّه ليس بالجديد لأن من يعود إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي ويستقرئ ما مرّ به الوطن العربي من أحداث في تلك الفترة سيعرف السبب المباشر الذي جعل قوى إقليمية ودولية لا تسمح ببناء دولة قوية وحديثة في اليمن ، لن نتحدث عن الفترة التي أعقبت قيام ثورة 26سبتمبر وثورة 14 أكتوبر قبل أكثر من ستة عقود وتحوّلت حينها الساحة اليمنية إلى ساحة صراع لتصفية حسابات سياسية بين قوى إقليمية ودولية دفع اليمنيون ثمنها باهظاً ولم يتوقف ذلك الصراع المرير إلا عقب نكسة يونيو- حزيران عام 1967م وبعد تحقيق ما عرف بالمصالحة الوطنية التي أجهضت وهج الثورة والجمهورية وتجمدت عندها أهدافها الستة لتبقى حبراً على ورق إلى يومنا هذا ولم يتبق منها إلا اسمها نرفعه كشعار ونزايد به ولكن لم تطبّق على أرض الواقع كما أراد لها أن تكون ثوّار سبتمبر وأكتوبر قبل أن يستولي على ثورتهم ثوّار ما بعد الثورة كما أكد ذلك القاضي عبدالرحمن الإرياني- رحمه الله- في مذكراته التي قال فيها حرفيا: (لقد ثرنا على إمام واحد وأتينا بأربعين إماما أي صرفناه مثل الريال الفرانصي اربعين بقشة) ففي حرب 6 أكتوبر 1973م التي خاضها الجيشان العربيان المصري والسوري ضد الجيش الصهيوني حيث تمكن الجيش المصري من عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف الحصين خلال الساعات الأولى من بدء الحرب وفرط العرب بمكتسبات هذا النصر نتيجة خوفهم من الجيش الصهيوني كونه في نظرهم الجيش الذي لا يقهر كانت القيادة المصرية آنذاك قد نسّقت مع القيادتين في شطري اليمن سابقاً لإرسال قوات بحرية مصرية للسيطرة على مدخل مضيق باب المندب الذي تشرف عليه اليمن لمنع أية سفينة متجهة إلى إسرائيل كما يفعل اليمن اليوم دعما وإسنادا لأبناء غزة فتم حصار إسرائيل اقتصاديا وقد شكّل ذلك الحصار ضربة قوية جعلت القادة الصهاينة يومها يتوقفون عن المطالبة بأسراهم من الضباط والجنود وما أكثرهم وتفرغوا لممارسة الضغوطات والتفاوض من أجل فك الحصار المحكم عليهم من مضيق باب المندب الذي تشرف عليه اليمن، وبعد فك الحصار بسبب رضوخ أنور السادات للضغوطات الأمريكية وسماحه للجيش الصهيوني الوصول إلى الكيلو 101 من القاهرة ليحاصر الجيشين الثاني والثالث المصريين في شرقي القناة ويمنع عنهما حتى الغذاء إلا بما يسمح به كما يفعل اليوم في غزة عندما تحكم في المعابر مجهضا أي السادات انتصار 6 أكتوبر، ومنذ ذلك التاريخ جعلت إسرائيل اليمن وباب المندب تحديدا من أهم قضاياها الإستراتيجية حيث ظلت عينها منصبّة على اليمن لتراقبه، وعندما شعرت أن هناك توجهاً لبناء دولة قوية في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي قامت إسرائيل عام 1976م بتوجيه ضربة جوية إلى باب المندب وهو الأمر الذي جعل الرئيس إبراهيم الحمدي يدعو إلى عقد اجتماع عاجل للدول المطلة على البحر الأحمر وقد تم له ذلك حيث عقد الاجتماع في تعز بحضور رؤساء السودان والصومال وشطري اليمن سابقاً وامتنعت السعودية عن الحضور وكان هدف الاجتماع هو جعل البحر الأحمر بحيرة عربية والوقوف ضد محاولات الهيمنة للسيطرة على مضيق باب المندب من قبل الدول الاستعمارية خاصة بعد الضربة الجوية الإسرائيلية، وقد عجّل ذلك التوجه بالتخلّص من الرئيسين الشهيدين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي في أقل من عام كلا على حدة بسبب سياستهما ومبادئهما الوطنية التي اعتبرتها إسرائيل والدول الكبرى تجاوزاً للخطوط الحمراء، فتم اتخاذ قرار خارجي يجعل من اليمن دولة تقودها القوى التقليدية التي ليس لديها مشروع وطني سوى التصارع على مراكز النفوذ ونهب ثروات الشعب اليمني والارتهان للخارج. ولم تكد تمضي فترة قصيرة من بعد العام 1978م حتى تفجّرت المشاكل وضاعت الدولة وخاصة في المناطق الوسطى وحدثت مواجهة عسكرية بين الشطرين سابقا انتهت بلقاء الكويت عام 1979م بين قيادتي الشطرين ولكن ظلت المناطق الوسطى مشتعلة بفعل تواجد الجبهة الوطنية المعارضة للنظام في الشمال فيها المدعومة من الجنوب فوجدتها القيادة في صنعاء والبطانة المحيطة بها فرصة لتشكيل ما سمّي يومها بالجبهة الإسلامية بحجة محاربة المد الشيوعي الآتي من الجنوب بالإضافة إلى الاهتمام بالهيئة العليا للمعاهد العلمية ذات التوجه المذهبي الوهابي والتي منذ إنشائها في السبعينيات من القرن الماضي تخرّج من معاهدها المتشدّدون وشكّلوا البذرة الأولى لما يعانيه اليمن اليوم من غلوٍّ وتطرّف مذهبي يكفّر كل طرف الآخر. وبعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو عام 1990م استبشر اليمنيون خيرا وكان الأمل كبيرا بخروج اليمن من أزماته والتفرغ لبناء دولته الحديثة، لكن مع الأسف الشديد فقد ظل الصراع على السلطة قائما وتفاقمت الأزمات المتتالية لأن التعامل مع إدارة دولة الوحدة تمت شخصنته خاصة بعد حرب عام 1994م المشؤومة التي لا تزال تداعياتها تلقي بظلالها على الشعب اليمني إلى اليوم، وعندما ضاق اليمنيون ذرعا قامت ما عرف بانتفاضة الشباب عام 2011م تزامناً مع ما سمّي بثورات الربيع في عدد من الدول العربية ونجحت في خلخلة النظام القائم حينها، لكن لأن اليمن عليه فيتو يمنعه من بناء دولة قوية وحديثة وخشية من أن تنتج تلك الانتفاضة وضعاً جديداً وبروز قوى وطنية مخلصة تفكر في بناء دولة قوية فقد سارعت قوى إقليمية ودولية للالتفاف على هذه الانتفاضة وإخمادها في مهدها بهدف الحفاظ على بقاء القوى التقليدية في الحكم وإن كان بصيغة أخرى حتى تضمن بقاء الوضع في اليمن هشّاً لا ينتج عنه دولة نظام وقانون تنفيذاً لاستمرار المخطط الخارجي الذي يحظر على اليمنيين بناء دولتهم. من هنا يتضح إنه مهما اعتقدنا أننا قادرون على تغيير الوضع فإن ذلك يبقى أمنية غالية لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تتوافر إرادة وطنية مستقلة تفرض نفسها بقوة إرادة الشعب وتزيح من طريقها كل المعرقلين الذين يقفون حجر عثرة في طريق بناء يمن جديد ويعتقدون أن الأمور لا تستقيم إلا بهم، وعندما قامت ثورة 21 سبتمبر الشعبية عام 2014م لتحقق هذا الهدف المنشود قامت الدنيا عليها ولم تقعد من الداخل والخارج فحاولوا إجهاضها بكل الوسائل الممكنة وعندما ثبت عجزهم إيقاف عجلة انطلاقتها بأساليبهم القديمة من خلال الاعتماد على عملائهم في الداخل سارعوا إلى تشكيل تحالف دولي مكون من إمبراطوريات السلاح والمال والإعلام فشنوا عدوانا ظالما على اليمن وشعبه العظيم في 26 مارس عام 2015م والذي ما يزال مستمرا للعام الحادي عشر على التوالي بهدف القضاء على ثورة 21 سبتمبر الشعبية التي حملت معها توجها جديدا لبناء دولة نظام وقانون وإعادة الاعتبار لليمن ليستعيد دوره الطبيعي في المنطقة إلا أن الشعب اليمني قيادة وجيشا وشعبا وبعد أن تحرر من هيمنة الخارج استطاع أن يقاوم هذا العدوان الظالم ويتصدى له محققا انتصارات عظيمة أذهلت الأعداء قبل الأصدقاء ومعلنا في نفس الوقت للعالم كله ان التراجع إلى الوراء مستحيل وأن بناء الدولة القوية والعادلة والاعتماد على الذات وتحرير القرار السياسي اليمني من الارتهان للخارج ستظل الأهداف السامية للشعب اليمني وسيتم العمل على تحقيقها على ارض الواقع حتى لو تكالب على اليمن العالم أجمع.