قطاع غزة، المكتظ ب2.4 مليون نسمة، بات اليوم مسرحاً لكارثة إنسانية لم تعد «متفاقمة» فحسب، بل تجاوزت حدود الصدمة إلى ما يشبه الاعتياد. الأرقام الواردة من وكالة «أونروا» تشير إلى تضاعف حالات سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة خلال الفترة بين مارس (آذار) ويونيو (حزيران) الماضيين، أما منظمة الصحة العالمية فترفع الصوت لتؤكد أن واحداً من كل خمسة أطفال في مدينة غزة يعاني من سوء تغذية حاد، محذّرةً من أن استمرار الحصار سيحصد مزيداً من الأرواح. الواقع في غزة اليوم لا يُمكن وصفه فقط بأنه "أزمة غذاء".. إنه نموذج صارخ لسياسة التجويع الممنهج يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين كأداة حرب، وتتواطأ فيها عن قصد أو عن صمت، أطراف إقليمية بوسائل غير مباشرة، فقد وثّقت تقارير منظمات أممية أن أكثر من 85% من سكان القطاع باتوا يعتمدون على المساعدات للبقاء على قيد الحياة، في حين لا يحصل معظمهم على ما يغطي حاجتهم اليومية من السعرات الحرارية، فحين تُفتح بوابات التصدير إلى موانئ "أسدود" و"حيفا"، وتُغلق معابر كرم أبو سالم ورفح أمام شاحنات الطحين يتبيّن أن المسألة لم تعد فقط ازدواجية في السياسات، بل نفاق استراتيجي يخدم الاحتلال ويقتل الضحية. وتتصدّر دول عربية كمصر والأردن والإمارات والمغرب قائمة المصدرين، بعضها عبر اتفاقيات تطبيع مباشرة، وأخرى عبر شركات وسيطة في أوروبا أو السوق الحرة، مما يعفيها رسميا من الإدانة الشعبية ولكن في المقابل لا تصل هذه المنتجات أو ما يماثلها إلى غزة، حيث يُمنع دخول الغذاء إلا بشروط إسرائيلية صارمة، تُحاصر الناس حتى في لقمة الخبز، بحجّة دواعي أمنية أو التوازنات اللوجستية. فالأدهى والأمر أن بعض السلع التي تُصدّر إلى الاحتلال تُستخدم لاحقًا لتغذية جيشه ومخازنه العسكرية، بل ويُعاد تصدير جزء منها بأسعار أعلى إلى مناطق في الضفة الغربية أو القدس الشرقية دون أن يصل منها شيء إلى غزة المحاصرة، فلليوم 13على التوالي تواصل عدة دول أوروبية تنفيذ ما يسمى عمليات إنزال جوي لمساعدات في قطاع غزة، في وقت مازالت المجاعة التي يفرضها الاحتلال الاسرائيلي تفتك بسكان قطاع غزة ، ولم تغير هذه الانزالات من الواقع شيئا، ومن اللافت أن التغطية الإعلامية الغربية تركز بشكل كبير على صور الإنزالات الجوية، وتتجاهل ما يحدث على الأرض من تجويع ممنهج وقتل بطيء للسكان. هذا التركيز الإعلامي يخلق وهماً بتدخل إنساني، في حين إن الواقع لم يتغير والمجاعة لا تزال قائمة وقد وصفت منظمة "أطباء بلا حدود" الإنزال الجوي بأنه "خدعة إنسانية لا تُسمن ولا تُغني من جوع"، فمن الواضح أن الغرض من هذه الإنزالات ليس تخفيف المعاناة، بل هو جزء من استراتيجية إعلامية لتخفيف الضغط على كيان الاحتلال الاسرائيلي أولًا، وعلى الدول التي تشارك في هذه الإنزالات ثانياً، إضافة لتهيئة الأجواء للعمل العسكري الإسرائيلي القادم في قطاع غزة، وحسب ما نقلته صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية عن مقربين من نتنياهو فإن هناك توجها نحو ما اسموه احتلال قطاع غزة وتعد هذه التصريحات مؤشرًا واضحا على أن المرحلة القادمة ستشهد تصعيدًا ميدانيًا واسعًا، يكون الإنزال جزءاً من الحملة الدعائية المصاحبة له، وهذا ما أكدته صحيفة يديعوت أحرنوت، حيث قالتها بصراحة إن عملية الإنزالات الجوية للمساعدات يأتي لإضفاء الشرعية على العملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة في غزة. فرغم أن القانون الدولي الإنساني يَعُدُّ استخدام التجويع سلاحاً ضد المدنيين جريمة حرب صريحةً، إذ يُنصُّ على أنه «يُحظَر تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب»، فقد صدرت في هذا الصدد قرارات عن مجلس الأمن تُدين استخدام الحرمان من الغذاء أسلوبَ حرب، وتعده انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، لكن الحقيقة أن ما يحدث في غزة ليس بمعزل عن التاريخ، فإن سردية حرب التجويع ليست مقتصرة على غزة وحدها، بل مورست من قبل في أفريقيا والبوسنة وغيرهما، الأمر الذي يكشف الحقيقة أن ادعاء الإنسانية أو الحقوق هو عمل محض افتراء وفي أحسن الأحوال ويدار برغبات سياسية لا وفق القوانين الدولية.