مشروع إسرائيل الكبرى ليس وليد اليوم، بل هو فكرة قديمة تمتد جذورها إلى ما قبل قيام الكيان الصهيوني، وهو مشروع قائم على رؤية توراتية سياسية تسعى لفرض السيطرة على المنطقة العربية من النيل إلى الفرات، بما يضمن لإسرائيل الهيمنة الجغرافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. هذا المشروع لم يكن مجرد شعار دعائي، بل هو استراتيجية مترابطة تتدرج من التغلغل الناعم إلى الهيمنة الصلبة، مستخدمة في ذلك كل الأدوات الممكنة من القوة العسكرية، إلى النفوذ السياسي، إلى السيطرة الاقتصادية، مروراً بإعادة تشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي. أولى ركائز هذا المشروع تقوم على تمزيق الوطن العربي وتحويله إلى كيانات هشة متناحرة يسهل السيطرة عليها. فقد أدركت إسرائيل ومعها القوى الغربية الداعمة أن الخطر الحقيقي على وجودها يكمن في وحدة الصف العربي والإسلامي، وأن بقاء الكيان مرهون بتفتيت الجبهة المقابلة. ولهذا شهدنا مشاريع التقسيم التي انطلقت من سايكس بيكو ولم تتوقف حتى اليوم، من تقسيم السودان إلى الدفع نحو تفتيت العراق وسوريا واليمن وليبيا، والعمل المستمر على إذكاء النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية داخل كل دولة عربية. أما الركيزة الثانية فتتمثل في الهيمنة على القرار السياسي العربي من خلال جعل معظم الأنظمة العربية تدور في فلك المصالح الأمريكية الإسرائيلية. وهنا برزت اتفاقيات التطبيع كأداة استراتيجية لربط مصير بعض الدول العربية بالكيان، وتحويلها من موقع المواجهة إلى موقع الحليف أو الوسيط، الأمر الذي يجعل القرار السياسي العربي مرهوناً إلى حد بعيد بما تريده واشنطن وتل أبيب. والركيزة الثالثة تتمثل في إضعاف الجانب العربي من خلال استنزافه عسكرياً واقتصادياً. فمنذ عقود والمنطقة العربية مسرح للحروب والصراعات الداخلية التي تم إشعالها بشكل مباشر أو غير مباشر بهدف إنهاك الجيوش العربية وتدمير بناها التحتية، وإغراقها في صفقات سلاح بمليارات الدولارات تذهب معظمها إلى الخزائن الغربية، فيما تبقى الجيوش نفسها عاجزة عن مواجهة إسرائيل أو الدفاع عن قضايا الأمة المصيرية. كما أن تدمير عناصر القوة العربية يُعتبر ركناً رابعاً في مشروع ما يسمى (إسرائيل الكبرى.) فالعلم، والاقتصاد، والموارد الطبيعية، والطاقات البشرية كلها عناصر قوة تم استهدافها بوعي كامل، إما عبر الحروب المباشرة، أو من خلال سياسات التجهيل وتدمير التعليم، ونهب الثروات الطبيعية، وجعل الاقتصادات العربية رهينة لقرارات المؤسسات المالية الدولية التي تدار من الغرب. إلى جانب ذلك، كان إسكات صوت الشعوب العربية هدفاً مركزياً، لأن أي مشروع مقاومة حقيقي لا يمكن أن ينهض إلا من إرادة الشعوب. لذلك سعت إسرائيل ومعها حلفاؤها إلى قمع الأصوات الحرة، وتدجين الإعلام، وتشويه المفاهيم، وربط كل خطاب مقاوم بالإرهاب. وما زاد الطين بلة هو استخدام بعض الأنظمة العربية كأدوات مباشرة في هذا القمع، بحيث يتم إخماد أي صوت داخلي يرفع شعار مواجهة إسرائيل أو يناصر القضية الفلسطينية. ولم يقتصر الأمر على القمع المباشر، بل جرى العمل بشكل منهجي على إشغال الشعوب العربية بهموم المعيشة اليومية، وخلق أزمات اقتصادية متواصلة، بحيث يغدو المواطن العربي منشغلاً بتأمين قوت يومه عن التفكير في قضاياه الكبرى. غلاء المعيشة، البطالة، الفساد، وانعدام الخدمات، كلها أدوات تضمن بقاء الشعوب في حالة إنهاك دائم، وهو ما يخدم الهدف الإسرائيلي في تغييب الوعي الجمعي. وإذا ما انتقلنا إلى الخطوات التنفيذية لهذا المشروع نجد أنها بدأت بترسيخ وجود الكيان كدولة أمر واقع بدعم غربي مطلق، ثم توالت الخطوات في اتجاه توسيع دائرة النفوذ من خلال فرض معاهدات واتفاقيات ملزمة، وضرب أي قوة إقليمية صاعدة يمكن أن تشكل تهديداً لمشروع ما يسمى ( إسرائيل الكبرى) ومن أبرز الخطوات العملية في هذا الإطار إشعال الحروب الأهلية في دول محورية، وإغراق المنطقة في صراعات لا تنتهي، وتحويل الأنظمة الوظيفية إلى أدوات تخدم المشروع دون الحاجة إلى تدخل مباشر في كثير من الأحيان. وما يجري اليوم في غزة من مقاومة وصمود، وفي اليمن من مواجهة مفتوحة على البحر الأحمر، وفي إيران من تصعيد الضغوط عليها ومحاولة تحجيم نفوذها، ومعه إسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، ومحاولات نزع سلاح المقاومة اللبنانية وخلق فتنة داخلية هناك، كلها ليست سوى شواهد راهنة على أن مشروع( إسرائيل الكبرى )لا يزال يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يضمن تفوق الكيان. فالمطلوب إضعاف كل قوة مقاومة، سواء في فلسطين أو لبنان أو اليمن أو إيران أو غيرها، وتحويل المنطقة إلى فسيفساء متناحرة تقودها إسرائيل من موقع "الدولة الكبرى" المحمية أمريكياً والمدعومة غربياً. إن مشروع (إسرائيل الكبرى) بهذا المعنى ليس حلماً توراتياً بعيد المنال، بل هو خطة عمل متدرجة تسير بخطى ثابتة منذ عقود، وقد قطعت أشواطاً واسعة عبر التطبيع، والتفتيت، والهيمنة الاقتصادية والسياسية. لكن في المقابل، فإن تنامي قوى المقاومة في أكثر من ساحة، وعودة الشعوب إلى الشارع، وتراجع الهيمنة الأمريكية في أكثر من منطقة، كلها عوامل تجعل هذا المشروع أمام تحديات حقيقية قد تنسف أسسه، أو على الأقل تفرمل اندفاعته. غير أن الخطر لا يزال قائماً، والوعي به شرط أساسي لمواجهته وإفشاله.