تشرفت بمرافقة الشهيد القاضي مجاهد أحمد عبدالله – وزير العدل وحقوق الإنسان – خلال عدد من زياراته الميدانية إلى المحافظات، والتي هدفت إلى تفقد أوضاع المحاكم والسجون والاطلاع المباشر على احتياجاتها، وقد أتاح لي عملي الإعلامي المرافق له فرصة التعرف عن قرب على شخصيته وأسلوب إدارته ومسؤوليته. كانت مرافقة القاضي الشهيد مجاهد أحمد عبدالله في جولاته التفقدية لمحاكم وسجون المحافظات، أكثر من مجرد مهمة إعلامية مهنية. لقد كانت رحلة تعلم، واستشفافاً لمعاني القيادة الحقيقية المتجذرة في التواضع والإنسانية. لم يكن "الوزير" في تلك الرحلات شخصيةً رسميةً عابرة، تنظر من برجها العاجي، بل كان رفيقاً وأخاً، كان حريصاً على مشاركتنا، مرافقيه، فندق الإقامة، وجلسات المساء، وموائد الطعام نفسها، لم تكن تلك المشاركة شكلاً من أشكال البروتوكول، بل كانت انعكاساً حقيقياً لشخصيته التي تؤمن بأن الجميع شركاء في الوطن والمسؤولية. في زيارات السفر الطويلة والوعرة بين المحافظات، كان حديثه لا ينقطع عن هموم القضاء وهموم السجون وهموم المواطن البسيط الذي يلتمس العدالة. كان يستمع أكثر مما يتكلم، يصغي لملاحظاتنا البسيطة وكأنها تقارير خبراء، محوّلاً المركبة إلى غرفة عمليات متنقلة تدار بالهمة والقلب المفتوح. كانت روحه نقيّة صافية، لا تعرف الحقد ولا التعالي، وكانت هيبته تملأ المكان، هيبة المستندة إلى علمٍ وخبرةٍ وإخلاص، لا إلى منصبٍ وسلطة ، كما كان رحمه الله يجسد العدالة ليس فقط في الأحكام والنصوص، بل في التعامل مع الناس، في احترام الصغير والكبير، في تقدير الظروف، وفي أن يكون أول السامعين وآخر المتكلمين. كان الشهيد، رحمه الله، يدقق في مفردات الخبر قبل نشره ، يرفض الجمل الانشائية ويدعونا للتركيز على المنجزات بتجرد دون مبالغة، جمع بين الجدية في أداء مهامه والحرص على أدق التفاصيل المتعلقة بتطوير البنية التحتية للمؤسسات القضائية، وبين التواضع في تعامله مع من حوله. وتحت سماء المحافظات المختلفة التي زرناها ، كنا نشعر أننا لا نرافق وزيراً فحسب، بل نرافق مدرسةً إنسانيةً متحركة، مدرسة تعلّمنا أن القيادة الحقيقية هي خدمة، وأن المسؤولية أمانة، وأن أعظم السلطات هي سلطة القلب المتواضع والعقل المجاهد. كانت همته عالية لا تعرف الكلل، فبعد كل يوم شاق من الزيارات الميدانية والوقوف على أحوال المباني المتضررة والاستماع لشكاوى الموظفين والنزلاء، كنا نجده في المساء ممتلئاً نشاطاً، مناقشاً خطط الغد، مفكراً في الحلول، وكأن طاقته كانت تستمد من إيمانه الراسخ بواجبه نحو الله ثم نحو هذا الوطن. لقد تميز الفقيد بقدرة خاصة على الجمع بين المسؤولية الرسمية والروح الأخوية في التعامل، مما جعل من حوله يشعرون بالقرب منه ويستمدون من حضوره قدراً كبيراً من الطمأنينة والثقة، وإن تلك الصفات، إلى جانب التزامه الدائم بالعدالة ورسالة القضاء، شكلت جزءاً أصيلاً من شخصيته التي ستبقى حاضرة في ذاكرة من عرفوه وعملوا معه. لن يغب ذلك اليوم الحزين من الذاكرة، لقد كانت الفاجعة كبيرة وكان اثرها مضاعفا، بكيناه كشخصية وطنية كفؤة ونزيهة ومحنكة، و كشخصية نبيلة كنت أجهلها من قبل ، غير أنه وخلال عام من عملي معه في ديوان الوزارة مثل لي شخصيا الدافع والحافز المعنوي للعمل وقدم لي الكثير من الدعم والمساندة. رحل جسد القاضي المجاهد، لكن هذه الصفات – صفات القائد الإنسان، والأخ الحاني، والوزير المتواضع – ستظل نبراساً يضيء لكل من رافقه أو عمل معه.