في العشرين من نوفمبر، لا تحتفل سلطنة عمان بيوم وطني عابر، بل تستحضر تاريخا ممتدا عبر قرابة ثلاثة قرون من قيام الدولة البوسعيدية التي شكلت واحدة من اكثر التجارب السياسية استقرارا في المنطقة. انه اليوم الذي تتجدد فيه هوية الدولة، وتظهر فيه ملامح القوة الهادئة التي بنتها السلطنة عبر عقود طويلة من الدبلوماسية المتزنة والتنمية المستدامة. هذا العام، تتجه انظار الداخل والخارج الى Muscat ليس فقط لمتابعة العروض العسكرية، بل لمشاهدة صورة دولة تمكنت من الجمع بين التاريخ البحري العريق والمشروع الاقتصادي الحديث، وبين الهوية التراثية والنهضة العمرانية، وبين قوة المؤسسات وروح المجتمع. ارث بوسعيدي... الدولة التي قاومت الفوضى واحتفظت بكيانها قيام الدولة البوسعيدية قبل اكثر من 281 عاما لم يكن حدثا عاديا في منطقة مليئة بالتحولات. فقد تمكنت عمان في ذلك الوقت من بناء نموذج سياسي اختلف عن بقية التكوينات القبلية في الجزيرة العربية. كانت الدولة الجديدة قادرة على إدارة الساحل العماني الطويل، وتأمين الموانئ، وبناء اسطول بحري وصل الى سواحل الهند وشرق افريقيا. وهنا يكمن سر من اسرار قوة الدولة: هوية بحرية سياسية مستقلة لم تخضع للتقلبات الخارجية، واحتفظت على مدى القرون بموقع ثابت في الخارطة الجيوسياسية. هذا الارث يعاد احياؤه اليوم في الاحتفالات الوطنية، ليس كتاريخ، بل كأساس لبناء الدولة الحديثة. الاستعراض العسكري... رسالة قوة تعكس متانة المؤسسات في يوم 20 نوفمبر، تقدم السلطنة عرضا عسكريا واسع النطاق تشارك فيه رموز كل الاجهزة العسكرية: الجيش السلطاني، البحرية السلطانية، سلاح الجو، الحرس السلطاني، قوة السلطان الخاصة، شرطة عمان، شؤون البلاط، الخيالة السلطانية، والفرق الموسيقية العسكرية. هذا العرض لا يقدم صورة استعراضية فقط، بل يعكس ثلاث رسائل جوهرية: 1. ان الدولة العمانية قائمة على مؤسسات ثابتة وليس على ردود فعل قصيرة. 2. ان الجيش العماني قوة دفاعية مستقلة ذات عقيدة ترتكز على حماية الاستقرار الاقليمي 3. ان سياسة الحياد لا تعني الضعف بل تعني امتلاك قوة منضبطة لا تستخدم الا في اطار السيادة. قوة بحرية متجذرة في التاريخ تعتبر السلطنة من اقدم الدول التي امتلكت تقاليد بحرية منظمة. البحرية السلطانية اليوم ليست امتدادا لأسطول تاريخي فقط، بل مؤسسة حديثة لا غنى عنها في حماية خطوط التجارة عبر بحر العرب ومضيق هرمز. ومع توسع تجارة الطاقة واللوجستيات في المنطقة، يزداد ثقل الدور البحري العماني الذي يعتمد على موانئ رائدة مثل: ميناء الدقم – ميناء صحار – ميناء صلالة. الدقم تحديدا يمثل واحدا من اهم المشاريع الاستراتيجية في المنطقة، اذ يجري تطويره ليكون منصة صناعية ولوجستية تنافس الموانئ العالمية وتوفر ممرا بديلا لسفن التجارة بعيدا عن المناطق المتوترة. المجتمع العماني... الشخصية الهادئة التي صنعت دولة مستقرة يتميز الشعب العماني بنمط اجتماعي فريد في المنطقة، يعتمد على الاتزان ورفض العصبيات السياسية، مما خلق بيئة مستقرة تسمح للدولة بالتركيز على البناء. في اليوم الوطني، تعود الفنون الشعبية مثل الرزحة والعازي لتشكل ذلك الرابط الروحي بين الماضي والمستقبل، وتؤكد ان الهوية الوطنية ليست مجرد احتفال، بل جزء من تكوين المجتمع. رؤية عمان 2040... مشروع اقتصادي واسع اليوم الوطني لا ينفصل عن المشروع التنموي الذي تقوده السلطنة حاليا. رؤية عمان 2040 تمثل خارطة طريق عملاقة تشمل: - تنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط - تطوير الصناعات الثقيلة والبتروكيماويات - الاستثمار في الطاقة الخضراء والهيدروجين - تعزيز قطاع السياحة من الجبل الاخضر الى صلالة - بناء مناطق اقتصادية حرة وموانئ دولية - تطوير تكنولوجيا الاتصالات والاقتصاد الرقمي هذه المشاريع حولت السلطنة الى بيئة استثمارية واعدة، وساهمت في اعادة تشكيل الاقتصاد العماني ليصبح اكثر مرونة وقدرة على مواجهة التقلبات العالمية. سياسة خارجية... هدوء يصنع نفوذا لم تختَر عمان سباق المحاور ولا سياسة الاصطفاف، بل اختارت طريقا صعبا لكنه فعال: الحياد النشط. هذه السياسة اكسبت السلطنة احترام المجتمع الدولي، وسمحت لها بلعب دور الوسيط في ازمات اقليمية كبرى. في يومها الوطني، كانت الخطابات العمانية تؤكد دائما على: - عدم التدخل في شؤون الاخرين - دعم الحوار - تعزيز استقرار الخليج - بناء علاقات دولية متوازنه هذا الخط السياسي جعل السلطنة دولة ذات وزن رغم عدم سعيها للظهور الاعلامي. عمان... الدولة التي تربط الماضي بالمستقبل في النهاية، يبدو الاحتفال العماني حدثا وطنيا شاملا يعيد رسم صورة الدولة, تاريخ عريق، قوة عسكرية منضبطة، جغرافيا استراتيجية على واحد من اهم المضائق البحرية في العالم، اقتصاد يتجدد، وسياسة خارجية متزنة. وعلى ابواب عام جديد، يدخل العمانيون يومهم الوطني وهم يدركون ان دولتهم ما تزال قادرة على النمو الهادئ والدخول في سباق التنمية دون صخب، مستندة الى ارث سياسي طويل ورؤية مستقبلية واضحة.