*إعتاد الناس على "علي صالح" لأكثر من ثلاثة عقود، لذلك احزننا جميعا ذهابه الدنيوي الأخير، لاسيما انه كان شخصا محبوبا، بسبب تواضعه، وبساطته، وكرمه، ووفائه مع اصدقائه وقرابته ومعاريفه، وهي اخلاق ومسالك شخصية محمودة،، ولكن بقي الشق الآخر للنظر والإعتبار، اي الحديث عن 'على صالح' الرئيس، المسؤول الاول والرئيسي، عن حقبة ٍ امتدت لثلاثة عقود ونصف، وهذا الجانب الأخير لا ينطبق عليه القول المأثور ( اذكروا حسنات موتاكم ) اي الاقتصار على تذكّر الحسنات والتغاضي عن غيرها، او الكلام على ( حسن الخاتمة)، ولكن اين حسن الخاتمة مع ما رأينا من الإصرار على التمسك بكل الأفكار والتوجهات التي حكمت مواقف عفاش وسياساته لسنوات مضت، كما يتضح لنا من خطابه التعبوي الأخير يوم 2 ديسمبر، متشبثا بالسلطة، على هيئتها التي بناها كما قال ( طوبة طوبة )، وذلك عبر تدوير الرئاسة من خلال " اللواء الدكتور يحي الراعي " رئيس هيئة رئاسة مجلس النواب، المنتهية ولايته. قتل مخذولا لكن المؤكد انه قُتل مخذولا، خذلته بيوت العنكبوت، العسكرية والأمنية والقبلية والمناطقية الهشة، التي قضى عمره يطعمها ويسقيها، ويرعى شؤونها، وهي شبكة محسوبية ولائية مصلحية، واهية، وواهنة، لا تسمن ولاتغني من جوع، قد اصابها الترهّل جراء التخمة والترف والتحلل. والعجيب انه ظل يعول عليها الى آخر لحظة، إذ وجّه اليهم نداءه الشهير في 2 ديسمبر للإحتشاد والمقاومة والمواجهة، وهي مفارقة غريبة، إذ كيف يمكن الركون الى مجاميع منتفخة الاوداج، منسدلة البطون، جمعتها المصالح وأوتاد الفساد،أن تتحول الى مشروع مقاومة، باهضة الثمن وشديدة المخاطر، لاسيما ان عفاش نفسه وجهها قبل ثلاث سنوات ان تخلي السبيل لذات الفئة التي يطلب منها الآن قتالها، هذه هي عواقب الاستبداد بالرأي، والتفرد بصناعة القرار، ولذلك فان الحق سبحانه وتعالى علمنا من خلال الوحي لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وشاورهم في الأمر )، لان الفرد مهما علا شانه، لا يملك رؤية مطالع الحقائق جميعها، وهو, اي عفاش، في هذه الحالة من خذل نفسه بنفسه، إذ عاش على وهم حشود الزوامل والبرع ، غير ملتفت ٍ او عابئ ٍبالنصائح والمشورات التي كانت تقدم اليه، على امتداد فترات حكمه، بطرق وعبر قنوات مختلفة، وانا شخصيا شاهد على كثير منها. سلك طريقا خاطئا فلو انه استثمر في بناء دولة حديثة قوية البنيان، راسخة الاركان، كما فعل عشرات القادة في بلدانهم، وقد تهيأت له فرص ذهبية لذلك، لكان صنع من اليمن عملاقا اقليميا، مهاب الجانب، وسندا لجيرانه واهل ربعه، وقومه، يحج اليه الكبار قبل الصغار... لكنه ضيع في الصيف اللبن. الترويج للبشاعة وقد لاحظتُ أن كثيرا من بسطاء التفكير ومحدودي النظر، انساقوا وراء القول أنه قُتل بطريقة بشعة، ولست ادري اين البشاعة، وبعضهم يردد انه مغدور، وهذه لعمري فرية ٌ عظيمة. كيف مغدور وهو قُتل في معركة مشهودةٍ كان هو شخصيا من حدد زمانها ومكانها، وأعلن ذلك على الملأ يوم 2 ديسمبر ، واعلن ايضا اهدافها المباشرة، والأهداف التالية للمرحلة الإنتقالية، والتي بمجملها تفضي الى العودة الى نظام ما قبل 2011_ 2012 م، وحتى لو سلمنا، تعاطفا، ان قِتلته كانت بشعة، فانها ليست ابشع من قِتلة الرئيس الشهيد المغدور ابراهيم محمد الحمدي، في اكتوبر، 1977م، وليست بكل تأكيد ابشع ممن تم تصفيتهم في عهده خنقا ( مثل عبدالسلام الدميني وإخوته و عبده محمد المخلافي، ومرافقيهم ) او كل الذين تم دفنهم احياء مثل القيادات الناصرية، عيسى محمد سيف ورفاقه، 1978م، وليست أبشع من قتلة الشباب الذين كان رجال الامن الوطني يلقون بهم في انصاف ليالي ديسمبر في بركة دار البشائر في التحرير، ليتحولوا الى مصبوبات ثلجية، بتهمة الحزبية. او الذين تم تصفيتهم حرقا في ساحة الإعتصام بتعز، في 2011 م، وبعضهم من ذوي الإعاقات، او مئات المخفيين، والمقتولين '"قضاءا وقدر" او أولئك الجنود والضباط الذين ازهقت ارواحهم في معارك صعدة العبثية، لمجرد تصفية حسابات او تحقيق اهداف غير مشروعة.. كما اتضح فيما بعد. والقائمة تطول... وشخصيا أعتبر ان الله قد لطف ب صالح عفاش، إذ قدّر له هذه النهاية، لان كثيرين كانوا يتوقعون له نهاية مأساوية " بشعة فعلا " تليق بتأريخه الجنائي، الذي اشرت آنفا الى أمثلة منه، وعلى الذين يجدون قلوبهم محرووقة ومكلومة على فراقه، ويعتقدون حقيقة انه قُتل مظلوما، ان يعرضوا انفسهم على اطباء المصحات العقلية، إذ كيف لم تتحسر نفوسهم الما وحزنا على آلاف الضحايا الذين قضوا إبان حكمه، كما اشرت الى نماذج منهم آنفا. وسبحان الخبير العليم الذي مكّن المرحوم صالح، كل هذه المدة الطويلة، حاكما مطلقا، لا حسيب ولا رقيب عليه الا رب العالميين، حتى اذا أقام عليه الحجة ومنحه الفرصة تلو الفرصة، أذاقه من نفس الكأس. ولله الحكمة البالغة، فقد قال في محكم التنزيل : { ولا تحسبن ّ الله غافلا عما يعمل الظالمون، انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار، مهطعين، مقنعي رؤوسهم، لا يرتد اليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء } فسبحان الذي يمهل ولا يهمل، _ الأسد والثعلب __ ** وبعد هذه المقدمة، اود ان أذكُر عبرة ًواحدة خطرت ببالي من فترة حكم صالح، وهي تحالفه مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وخدمته للمصالح الامريكية، إذ كان المسؤولون الامريكون يقولون عنه انه افضل حليف وافضل شريك في مكافحة الارهاب في عموم المنطقة، وقد كان كذلك فعلا، إذ بذل قصارى جهده لاسترضاء دوائر الحكم في امريكا، لكي يكون له اتصال مباشر، لا يمر عبر الرياض، فأباح لهم الاجواء اليمنية، والبحار والمنافذ، من الوريد الى الوريد ، يسرحون ويمرحون بالمطلق، وهو يتفرج مع المتفرجين، ويسمع الأخبار من القنوات، كما صرح بذلك ذات مرة، بل انه سخّر لهم كافة مؤسسات واجهرة الدولة، العسكرية والامنية والمدنية، الى درجة انهم نسخوا قاعدة بيانات اليمنيين من مصلحة الاحوال المدنية والجوازات، ونسخوا ارشيفات الامن السياسي، وسجلات منتسبي الخدمة المدنية والدفاع والامن.... الخ، وظلوا يحصلون على ما يستجد من بيانات عبر ضباط ارتباط، بتوجيهات منه شخصيا. وهذا فقط مثال على " عمق العلاقات " بين الحكومة اليمنيةوواشنطن... ولكن وبالرغم من ذلك كله، فان امريكا قد رفعت الغطاء عن صالح، بل وحرضت وساعدت على التخلص منه في آخر المطاف، لانه كما قال احد سفراء واشنطن "حليف ممتاز، لكن وغد" وهو ما يعني في الثقافة الأمريكية، انه اساء التصرف مع الأسياد ، واغضب الدولة الاكبر في النظام الدولي ، وكما المحت آنفا، فإن انتكاسات صالح عفاش، جاءت كنتاج منطقي للسياسات المرتجلة والفردية، والتي لم تكن تمر عبر مراكز ابحاث او مؤسسات متخصصة، او مكونات استشارية حقيقية، كما هو الحال في الولاياتالمتحدة نفسها، وفي حكومات الدول الراسخة والناهضة. و بكل تأكيد، فإن صالح رحمه الله لم يقرأ قصة ( الأسد والذئب ) : فالتعامل مع الكبار ( دول واشخاص ) له قواعد وبروتوكولات، لم يطلع عليها الراقص مع الثعابين، ولو كان قراها لعلم أن خبرته المكتسبة من خلال اللعب والمناورة مع شركاء الداخل، لا يصح تطبيقها مع الخارج، خصوصا مع الكبار، وبالمناسبة، تلك الثعابين التي جلبها من الأزقة والردهات والمتاهات، لم تكن تشكل، في حقيقة الأمر، اي خطورة، لانه كان يبدأ بنزع انيابها، وأكياس السم من حواصلها، ويحشوها بالترف والنعيم، الذي يفقدها الفحولة والفتوة والكرامة معا، ماعدا خاتمة شركائه، الذين درسوا الوضع بعناية فائقة، فلم يمكنوه من إعمال مواهبه عليهم، ولزموا الحيطة والحذر، حتى كان ما كان، ولله الأمر من قبل ومن بعد. سنن الله لا تحول ولا تزول واكرر القول بان الرئيس صالح رحمه الله، لم يكن يقبل النصح او المشورة، فوقع في المحظور، داخليا وخارجيا،، أثقلته المظالم، وغره حلم الله عليه، ولم يكن لديه متسعا من الوقت ليستمع الى كلام جاد، حول المكر الإلهي، والإستدراج، والإملاء، ليعلم َأن لله سنن، لا تحول ولا تزول ولا تبدل، وهي محتومة، وماضية على الصغير والكبير، والسيد والمسود، الى يوم الحشر والنشور. والدرس المستفاد من التعامل مع امريكا هو ضرورة الحيطة والحذر، و عدم الركون الى أولئك الأنجاس، رعاة البقر، وشذاذ الآفاق، وعدم الانسياق وراء رغباتهم، لان طلباتهم، ليس لها سقف معين، بل تظل في توسع مستمر، وليس للأخلاق والقيم في ثقافتهم نصيب. ومن طبيعتهم احترام القوي الحكيم.. وهم يستمدون قوتهم من ضعفنا، والمبالغة في تعظيم قوتهم وتأثيرهم. وحين يعجز ( الشريك الحليف لهم) عن تلبية الطلبات، يتم نذقه في المزابل، غير مأسوفٍ عليه، كما حدث لشاه إيران، الذي تخلوا عنه لصالح الخميني،. قال الحق سبحانه في محكم التنزيل : ولا تركنوا الى الذين ظلموا، فتمسكم النار*.. وأخيرا أقول لأصدقائي، الذين ربما لن تعجبهم هذه التناولة، ان الزعيم صالح كان رئيسا لليمنيين جميعا، ومن حق الجميع ان يقيموا فترة حكمه، ويستخلصوا العبر والدروس، مع بقاء الحب والتبجيل له كشخص، كما اسلفت، وأرحب بتعليقاتكم ونقدكم البناء، شريطة التزام آداب الحوار. تحياتي لكم جميعا.. *- د. عبدالحميد ملهي *- مستشار لدى مكتب رئاسة الجمهورية اليمنية