لطالما حَزِنتُ كثيراً للمعاملة – التي كنت أظن أنها بشعة – للطيورِ المُهاجرة من الشمالِ – تأملتُ لعلي أرى جناحيها مهيضةً أو أن أسمعها تنشد بألمٍ وحسرةٍ لِما يحدث من تمزقٍ حواليها ، لكنني صحوتُ على رائحةِ البارودِ التي أستبدلتْ برائحةِ خبزِ أمي ، صحوتُ وإذا بها تتحول إلى جوارحِ تنهشُ لحومنا وتفترس أشلاءنا المتناثرةَ هنا وهناك ، تّتبع آثارنا وتجتثنا أحياءً وأمواتاً ، وكلما سمعتُ طقطقة لبندقياتهم أُذعرتُ ووقفت أتوسل ليمنحوني شيئاً من الأمل دون أن يرهصوا جسدي لأموت بأقل تكلفة … تذكرتُ أن التعاطف خزيٌّ في هذه المواقف ، فبالأمس فقدتُ زملائي خالد وعمرو وعبد الرحمن وهم يذودون بأرواحهم ليحموا جسم وطني المُهشم بمخالب الجوارح المهاجرة ، ليتني لم أعاتب الدكتورة بقسم العلوم وأقف صارخاً أمامها بالمحاضرةِ الثقافية (أيّ ثقافة تحملين ) ثم غادرتُ المحاضرة وعلى أكتافي غصةٌ تمحصني ، بالإمس ذهبت باحثاً عن الدكتورة لعلي أجد حطامي المتبقى على ثغرها وأقدم إعتذاري – وهل يفيد !- وصلتُ وإذا بها شامخة بين طلبتها ، وعندما رأتني ابتسمتْ بسمةً عريضة ، قطعتني وأشعرتني بالغباء الذي كنت أحمله وأدخره ، عندما وصلت استأنفتُ حديثي مباشرةً ( سامحيني يا أمي …) أجابت (لا عليك ، فقد كنت موقنةً أنك ستعود ….) ولم تفصح كيف عرفت ….. لا تلومونا يا مثقفي الشمال فطيوركم المهاجرة قتلت براءتنا بخنجرٍ مسمومٍ عاف عليه الزمن وظلوا يحتفظون به ليمزقونا بشفراته ، ولا يزالون يزرعون الرعب والإرهاب في مجتمعنا ، بالكاد أن يمر يوم بسلامٍ دون أن يتوغل الخنجر المسموم في صدورنا ، قلما تجدون بيتاً سليماً من العزاء بخلال العام الذي جرّ أذياله راحلاً قبل أيام ، أعيادنا أصبحت رموزاً للمآتم والذكريات الإستشهادية ، كنت أودّ أن أودعكم بسلامٍ لعل جيلاً سيأتي ليترحم عليكم كما تترحم أجيالنا على الإحتلال الإنجليزي ، لكن طيوركم تركت أراضينا قبوراً وأكبر إنجازاتها السجون المركزية والمعسكرات الدامّية ، هذه تركتكم وما ورثنانه عنكم …. إبراهيم الصالح