أخذت الشكوك تحاصره والأوهام تغزو عقله وأضحى ياسين في حيرة شديدة لا يدري كيف يصل إلى اليقين بعد أن تلقى اتصالاً من أحد الأشخاص الذي كان يعرفه معرفة عابرة ليشكره ويشكر فيه زوجته بثينة على الوقفة الإنسانية والمساعدة التي قدمتها له . فبعد أن كان ياسين زوجاً مثالياً في اهتمامه بأطفاله وزوجته صار بعد ذلك الاتصال شديد الغضب وينفعل لأتفه الأسباب ويسأل زوجته عن كل شاردة وواردة ويتابع تحركاتها ويحلل أقوالها ويتشكك في كل تصرفاتها.... حينها حاولت بثينة التقرب من زوجها ومعرفة سبب ذلك التغير المفاجئ في سلوكه وتعامله الذي أصبح عبئاً ثقيلاً عليها وعلى أبنائها لكنه رد عليها بكيل من الشتائم فلم يكن جوابها له سوى أنك لا تطاق وسوف أصطحب أطفالي وأذهب إلى منزل والدي وأترك لك المنزل لكي تعيد تفكيرك وتراجع نفسك في هذا التغير المبهم الذي طرأ على حياتك وحول المنزل إلى جحيم وفعلاً أخذت أطفالها وذهبت إلى منزل والدها.. مكث ياسين في المنزل وحيداً يتقلب بين أشواك الظنون ومحترقاً بنيران الغيرة والاعتقاد الواهم في وجود علاقة بين زوجته بثينة وذلك الشخص وإلا لما أقدمت على ذلك الفعل وأقرضته مبلغاً من المال وخاصة بعد أن أخبره أحد أصدقائه أن زوجته بثينة كانت زميلة لذلك الشخص أثناء دراستهما الجامعية وأنه كان قد تقدم لخطبتها لكنها لم توافق على الزواج منه. لقد أسودت الدنيا في وجه ياسين وأخذت تلك الشكوك توحي له أن زوجته بثينة على علاقة مع ذلك الشخص معتبراً أن حياته معها لم تكن سوى وهم.. وهو الذي أحبها بكل جوانحه وبذل كل ما يملك من أجل إسعادها. لم يدر ياسين كيف يخرج من دائرة الوساوس وتلك الأوهام الفاقدة لدليل واضح يؤكد وجود علاقة عاطفية بين زوجته وذلك الشخص فهو يحب بكل صدق زوجته ولم ينس لها صنيعاً جميلاً قدمته في حياته إذ أخرجته من حياة اللهو والعبث والمغامرات العاطفية وممارسة المنكرات. حاول ياسين أكثر من مرة استعادة شريط الذكريات فلم يجد فيه عن بثينة إلاّ امرأة شريفة سباقة لأعمال الخير جامعة لفضائل الأخلاق..ولكن يبقى السؤال حائراً دون إجابة ما علاقتها بصاحب المكالمة الهاتفية التي غيرت مجرى حياة هذه الأسرة وماهو الدليل القطعي الذي سوف يزيل الشكوك والأوهام التي تتراقص في عقل ياسين.. لقد فكر ياسين كثيراً ولم يجد حلاً فقرر الاستعانة بصديق فذهب إلى أحد زملائه لعله يساعده في اتخاذ قرار مصيري في هذه المشكلة التي تكاد أن تعصف به إلى عالم الجنون إن هي استمرت على هذا الحال.. لكن صديقه عزز من ظنونه وأصدر أحكاماً أكثر اجحافاً بحق بثينة. غادر ياسين منزل صديقه وعاد إلى منزله.. ليغرق في دموع الحيرة ومستنقع الألم.. سأل الله كثيراً أن يخرجه من حيرته ويخلصه من أوهامه ويوصله إلى الحقيقة فهو يرى استحالة العيش من دون بثينة وفي نفس الوقت استحالة أن يرى وجود مثل تلك العلاقة ويغض الطرف عنها ..؛ ووسط موجة من تلك التساؤلات غرق في نوم عميق استمر لليلة كاملة بعد ليال من السهر المتواصل ليستيقظ وقد بادرته فكرة أن يلتقي بذلك الشخص ويواجهه بالحقيقة، فانطلق مسرعاً إلى منزله، فسأله مباشرة عن نوع العلاقة التي تربطه ببثينة فابتسم ذلك الشخص ورد عليه بهدوء وقال له يا أخي لا تذهب بتفكيرك بعيداً فأنا عرفت بثينة أثناء دراستي الجامعية وقد كانت زميلة لاختي ولم تربطني بها سوى زمالة الدراسة وقد كانت نموذجاً للفتاة المثقفة المتحلية بكامل الأدب والأخلاق والتدين ولذلك كنت قد تقدمت لخطبتها لكنها رفضتني وفضلتك أنت وهذا، أمر طبيعي لفتاة تتمتع بالحكمة والعقل،فالحب ليس بيد الانسان لكن بقلبه فحيثما يميل القلب يكون الحب. ولتقطع كل تلك الشكوك باليقين يا أخي لا تظلمني بتلك الأوهام فلقد قضيت ثلاث سنوات ونصفاً معتقلاً في السجن بسبب نشاطي السياسي وعند خروجي من السجن تواصلت مع شقيقتي وسددت ذلك المبلغ الذي اقترضته منكم وأظن أنه تم تقديمه بمعلمك فتراجعت ثورة الغضب في صدر ياسين بعد أن سمع من ذلك الشخص كلاماً ينم عن نفس مثقفة وعقل رزين وشخصية متزنة فانطفأت تلك الشعلة المتأججة التي كانت في أعماقه وانصرف، عائداً إلى منزله بعد أن قرر مصارحة زوجته بثينة بما كان يدور في أعماقه من شكوك بطبيعة علاقتها بذلك الشخص فالآن بعد أن سمع هذا الكلام من ذلك الشخص يستطيع المقارنة بين أقوالها وأقواله ليستنبط الحقيقة أتصل بزوجته بثينة وواجهها بتلك الشكوك فأقسمت له بعدم وجود أي علاقة عاطفية كما يظن ولكن مساعدتها لذلك الشخص يعود لمواقفه الشجاعة ونشاطه السياسي الرافض للظلم والقهر والاستبداد وكانت أخته والتي كانت زميلتها بالجامعة قد اتصلت بهاو اخبرتها بالظروف الصعبة والقاهرة التي يمر بها فقررت مساعدته وأقرضته المبلغ لوجه الله فقط هذه هي الحقيقة ولك الخيار فيما تتخذه من قرار. فكر ياسين ملياً وأخذ يستذكر كل اللحظات والدقائق التي قضاها مع زوجته بثينة ويتبع مسار كل المنعطفات التي مرَّ بها معها على مدى أربع سنوات ليصرخ بكل صوته، بثينة أرجو السماح والمعذرة فحبك الكبير والغيرة المبررة كادت تفقدني حياتي. توجه مسرعاً نحو منزل عمه والد بثينة طالباً عودة بثينة وطفليه إلى المنزل.. لكن بثينة كانت قد فرمتت قلبها من حب ياسين ورفضت العودة إلى زوج لا يثق بها لتبدأ حينها ساعة الحداد الحقيقية عند ياسين.