ما يحدث اليوم في وطننا الجريح من فوضى وعبث وخراب وغياب دولة، ليس استثناءً، أو أمراً طارئاً أو فريداً من نوعه في تاريخ الشعب اليمني. إنها ذهنية الإنسان اليمني والعربي الراسخة في إيمانها بالعنف والتطرف والجدال، وفي كراهيتها للعلم والتأمل وقراءة الأحداث بمنهجية علمية. إنها نفسيته المريضة، المتوارثة للحقد والكراهية منذ قرون من الزمن.. نفسيته التي تهفو نحو الشيطان، وتسير على هدي خطواته، حتى تسقط في الجحيم سقوطاً مدوياً.. ليس عيباً أو نقصاً أن تأخذ بالنصح والاستشارة. أو أن تراجع أفكارك ومواقفك، كإنسان فرد أو حزب أو جماعة أو نظام، بدلاً عن ادعاء الكمال وبلوغ العصمة، واستحقار ما دونك وتكفيره. لا أعتقد أن هذا القوى والجماعات ستستيقظ من غفلتها المذلة للإنسان اليمني، والقاتلة لقيمه وأخلاقه وحضارته ومستقبله. أو أنها ستتجاوز سقطاتها وخيباتها المتلاحقة التي أثقلت كواهل الناس جميعاً وأصابتهم في مقتل. بالأمس، أحدهم يتحدث بانتشاء عمَّا أسماه (اقتراب لحظة الحسم والتصفية الشاملة، وإشفاء الغليل).. يا الله، كم أشفقت على هذا الشخص المغيَّب عن الصواب، والمزيف في وجوده الإنساني. وكم شعرت بالحزن والوجع والخوف على هذا الشعب المعاقب بالجهل المركب، والعقد النفسية، والأوبئة الفكرية والسياسية والطائفية المتراكمة .. لم يكن قوله الشنيع هرطقة أو عبثاً، فحديثه المسنود بالنظرات القاتلة، وحركات الجسد العنيفة تنعكس من خلاله الرغبة الجامحة في الانتقام، وانحلال قيم الحب والحياة. وهو ما ينبئ بانعدام الشعور بالأمل، أو حدوث انفراج قريب يوقف آلة الموت والخراب والتشريد، ويعود بنا إلى العقل والحوار والسلم. إننا اليوم نقف أمام فاجعة حقيقية، وهي انعدام الثقة بين جميع أطراف الصراع السياسي والعسكري في اليمن، وتعويلهم فقط على منطق الحسم العسكري. وهو منطق قبيح وفاشل ومهلك سيقضي على ما تبقى من وحدة وألفة وسلام وآمال. فكل طرف لن يسمح للآخر بالاستفراد بالسلطة، والهيمنة السياسية والاجتماعية والعسكرية، مهما طال أمد الحرب، ومهما كانت التضحيات.. إن منطق الغلبة بقوة السلاح، والسعي نحو الاستفراد بالسلطة، وممارسة الاستبداد والاستعباد والانتقام وإقصاء الخصوم، لا يمكن أن يتحقق لأي طرف مطلقاً. ولن ينتج سوى الموت والهلاك للجميع. وبناءً عليه، فإن إلغاء مبدأ الحوار نهائياً من قبل الحوثي، أو من قبل القوى المناهضة له، أو الإصرار على التخلص من الآخر عسكرياً، سيفرض على المحايدين والراغبين في التخلص من الوضع القائم تغيير مواقفهم. فلا جدوى من تدوير حالة الهيمنة والعنف والصراع والانتقام، لعقود من الزمن. لا خيار سوى العودة إلى العقل، وإحياء الضمير الوطني والإنساني. ولتكن البداية من لين المواقف، وسيادة خطاب التسامح والسلام وطمأنة الناس جميعاً على أن الوطن مقبل على مرحلة بناء دولة مدنية عادلة، تضمن في ظلها جميع المكونات السياسية والدينية والاجتماعية حريتها وكرامتها وحقوقها. لا دولة عصابات ومليشيات تستفرد بكل مقدرات الوطن، وتقضي على هويته ومستقبله ووحدة نسيجه الاجتماعي. صحيح، أن قرار إيقاف الحرب، وقبول الحوار لم يعد بيد أي طرف سياسي يمني، سواء أكان في الداخل أم في الخارج، وإنما بيد الأقطاب الإقليمية والدولية، التي تقاتل تلك الأطراف بالنيابة عنها. ولكن عودة أطراف الصراع المحلية إلى صوابها ونفض يدها من يد العمالة والارتهان سيجعل الأمر سهلاً جداً. فالقضية تكمن في توافر الإرادة الوطنية الصادقة. وأنى لنا أن نجدها!!؟