إنْ كان لنشأةِ تنظيمِ القاعدة صلةٌ بنتائج الهيمنة الغربية، والأمريكية على وجه التحديد، فإنَّ برنامج الطائرات بدون طيار، الذي تديره وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) والذي يستدعي انتهاك سيادة بلدان أخرى وممارسة الإعدام خارج القانون وبدون محاكمات، أسوأ نتائج هذه الهيمنة، ومن شأنه أن يدعم فكرة التنظيم ويوسِّع دائرة المتعاطفين معه. مراحل حروب أمريكا والقاعدة بعد عمليتي الحادي عشر من سبتمبر في كلٍّ من نيويورك وواشنطن قرَّرت الإدارةُ الأمريكيةُ غزوَ أفغانستان للقضاء على الخطرِ الذي يتهدَّدها داخلَ أراضيها من داخل هذا البلد الذي كانت تحكمه حركةُ طالبان المتهمةُ بإيواءِ من تتَّهمهم الولاياتُالمتحدةُالأمريكيةُ بالوقوفِ وراءَ تلك العمليات. وفي فترةٍ زمنيةٍ وجيزةٍ احتلَّت أمريكاأفغانستان، بمساعدةٍ من بعض قوى الداخل التي كانت تعيش حالةَ عداءٍ مع تنظيم القاعدة، لكن وقبل أن تطمئن أمريكا مواطنيها، بعد قضائها على حكم حركة طالبان، بدأت توابيت الموت تعود إلى أمريكا محملةً بجثث جنودها الغزاة. ومع تزايد الخسائر الأمريكية البشرية والمادية جاء قرار تخفيف الوجود الأمريكي العسكري في أفغانستان ثم قرار إنهائه، رغم تنامي قوة حركة طالبان يوماً بعد آخر. وبرغم أن ذهاب أمريكا إلى العراق في عام 2003م لم يكن له علاقة بتنظيم القاعدة، ولا حتى بما قالت أمريكا إن له علاقة بذهابها، إلَّا أن لخروجها من هذا البلد علاقةً بتنظيم القاعدة الذي دخل العراق لمحاربة الأمريكان، ولخلق توازنٍ سُنيٍّ شيعيٍّ بعد المجازر الطائفية التي تلت سقوط نظام صدام. وجاءت نتائج الوجود العسكري الأمريكي في العراق أكثر سوءاً منه في أفغانستان، لقرب العراق من بلدان عربية كانت الأكثر تصديراً للجهاديين إلى أفغانستان وغيرها من البلدان التي كانت محسوبة على الاتحاد السوفيتي. لقد خرجت أمريكا من الحربين في العراقوأفغانستان بقناعة مفادها أن هذا النوع من الحروب لا يمكن أن يقضي على تنظيم القاعدة أو يحدَّ من خطره، إن لم يكن يصبُّ في صالحه، ويُحسب لتنظيم القاعدة أنه وضع حداً للاحتلال الأمريكي العسكري المباشر، أو حصَّنَ الأمة عسكرياً، بحسب تعبير الدكتور أكرم حجازي. إن كلَّ الإجراءات الأمنية لا يمكن أن تفي بغرض الحيلولة دون مهاجمة المصالح الأمريكية والغربية في العالمين العربي والإسلامي، أو دون مهاجمة أمريكا داخل أراضيها، كما أن تنامي التنظيم يُهدِّد مشروعها في المنطقة، ويُهدِّد أمن إسرائيل، ولا بدَّ من مهاجمته في مناطق تواجده، على ألَّا يشارك الجنود الأمريكيون في هذه الحرب.
حربٌ بالوكالة وفي إطار التعاون المفروض في مجال الحرب على الإرهاب خاضت جيوش وقوات أمن دول عربية وإسلامية حروباً ضد تنظيم القاعدة بالنيابة عن الجيش الأمريكي، لكن هذه الحروب لم تأتِ أُكُلَها على نحوٍ يحدُّ من قلقِ الولاياتالمتحدةالأمريكية، رغم أن حروباً فكريةً ودعائيةً واقتصاديةً وإعلاميةً خِيْضَتْ بالتوازي مع الحروب الأمنية والعسكرية.
الحرب عن بعد (حرب الطائرات بدون طيار) بعد هذا كله وجدت أمريكا ضالَّتها في حرب الطائرات بدون طيار التي لا تستدعي إنزال قواتٍ أمريكية على الأرض، بل استخدام أبناء الأرض لخدمة طائراتها التي ترسلُ الموتَ من السماء، لكنَّ هذه الحرب تقوم على انتهاك سيادة بلدانٍ أخرى، وعلى تجيير القوانين لصالح الرغبة في القتل. وبرغم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية سعت إلى إعادة تعريف السيادة بصورةٍ تجيزُ لها انتهاكها دون أن يتعارض ذلك مع القانون، إلا أن ذلك لم يكن ليحول دون الصدى الشعبي الذي يصبُّ في صالح خصمها الأول، تنظيم القاعدة. لهذا ظلَّ عملُ الطائرات بدون طيار سرياً في بدايته، وربما كانت بعض وسائل الإعلام الأمريكية تتعمَّدُ تسريبَ بعضِ المعلومات عن نشاط هذه الطائرات لقياس موقف الشارع العربي والإسلامي، خصوصاً في البلدان التي يطالها القصف، ومن ذلك المعلومات المتعلقة بالغارة التي استهدفت القيادي في تنظيم القاعدة "أبو علي الحارثي" وستة من رفاقه في صحراء محافظة مارب أواخر عام 2002م. لقد توقفت الغارات في اليمن بعد ذلك قرابة ثمان سنوات، وحين عادت خلال عامي 2009م و2010م، أثارت السخط ذاته، وحينها لعبت المعارضة دوراً في تهييج السخط الشعبي ضدَّ الأمريكان وضدَّ النظام السابق بدرجةٍ رئيسية، تماماً كما لعبت دوراً مهماً في تهيئة المزاج الشعبي لتقبُّل عمل الطائرات بدون طيار خلال وبعد الثورة الشبابية. وحينها وجدت أمريكا نفسها تحقق نجاحاتٍ ضدَّ تنظيم القاعدة في اليمن دون أن تخسر أكثر من قيمة الصواريخ الموجَّهة التي تُطلقها طائراتها من دون طيار على أهدافٍ مفترضة لتنظيم القاعدة داخل الأراضي اليمنية، إن لم تتحمَّل تكلفة هذه الصواريخ بلدانٌ أخرى مجاورةٌ شريكةٌ في الحرب على الإرهاب، على اعتبار أن تقاسم خسارة هذه الحرب من لوازم الشراكة فيها، بعد أن صنَّفت أمريكا تنظيمَ القاعدةِ كخطرٍ عالميٍّ واعتبرت نفسها مركزَ قيادة الحرب عليه. ومقابل خدمات سياسية قدَّمتها أمريكا لقوىً طامحة بالحكم في الداخل اليمني، فتحت لها التنازلات السيادية التي قدمتها تلك القوى أجواء اليمن من المهرة إلى صعدة. وحتى لا يلعب من كان نظاماً سابقاً نفس الدور الذي لعبه من كانوا معارضين سابقين، ويبدأ بنقد السماح لأمريكا بانتهاك السيادة على هذا النحو، ظلُّوا طوال فترة الثورة يتحدثون عن علاقته بتنظيم القاعدة، كي يصبَّ أيُّ نقدٍ في صالح اتهامهم له لا في صالح رغبته في النيل منهم. لقد وجدت الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها أمام ظروف مهيأة من كلِّ النواحي وبشكلٍ غير مسبوق لعمل طائراتها من دون طيار، فقررت استغلالَ تلك الظروف على نحوٍ أمثل، وقد استدعى هذا القرار: 1 بناء قاعدةٍ عسكريةٍ سريةٍ لطائراتها بدون طيار في المملكة العربية السعودية لمحاربة تنظيم القاعدة في اليمن. 2 الموافقة على طلب توسيع النطاق الجغرافي لعمل هذه الطائرات وتوسيع دائرة المستهدفين بغاراتها، بحيث تصبح القاعدة كلُّها قائمةَ قتلٍ أمريكية. 3 إنشاء مركز عسكري بالقرب من العاصمة صنعاء تدير منه أمريكا، إلى جانب اليمن والسعودية وعمان، الحربَ على تنظيم القاعدة، بحسب الرئيس هادي. وبعد مئات من الغارات التي نفذتها طائرات أمريكا بدون طيار، وآلاف الضحايا الذين سقطوا بتلك الغارات خلال عامي 2011م و2012م، بينهم عدد من المواطنين، لم تستطع الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تحدَّ من نشاط تنظيم القاعدة في اليمن، كما لم يحُل النشاط الإعلامي لقوى الداخل المتحالفة معها ضدَّ التنظيم دون انضمام أعضاء جدد إلى صفوفه، بل تؤكد المعلومات أن من انضموا أكثر ممن قُتلوا خلال الفترة الماضية. لأن عدم وجود قنواتٍ للتعبير عن السخط من الغارات التي تشنُّها الطائرات الأمريكية من دون طيار، بفضل التواطؤ الداخلي معها، جعل الانضمام إلى تنظيم القاعدة هو التعبير الوحيد عن ذلك، وبدلاً من أن تجني أمريكا نتائج هذا التواطؤ جنى تنظيم القاعدة نتائجه بصورة تجاوزت ما يجنيه من خلال نشاطه الذاتي.
البحث عن خيارات أخرى ويبدو أن تقنية حرب الطائرات الأمريكية من دون طيار هي آخر مراحل الحرب الأمريكية على تنظيم القاعدة، أو الخيار الوحيد غير المكلِّف حتى الآن، فإمَّا أن تستمر أمريكا فيها رغم نتائجها السلبية، وإمَّا أن تبحث عن حلولٍ أخرى من خارج دائرة الحرب. على أن بحث الولاياتالمتحدة عن حلولٍ أخرى من خارج دائرة الحرب سيكون بمثابة إعلانِ حربٍ على شركائها في الحرب على الإرهاب، وبحسب تعبير نوري المالكي، حين حاولت أمريكا فتح خطَّ حوارٍ مع بعض فصائل المقاومة العراقية: كيف تحاور الإدارة الأمريكية من قتلوا الجنود الأمريكيين. أما الرئيس الأفغاني حامد كرزاي فقد اتَّهم الولاياتالمتحدةالأمريكية بالعمالةِ لحركة طالبان حين قرَّرت أمريكا إجراءَ حوارٍ معها. وحين تجدُ دولةٌ بحجم أمريكا نفسَها أمامَ خيارٍ وحيدٍ، وغيرِ فعالٍ بالشكل المطلوب، بالإضافة إلى كونه الخيارَ الذي يجبرها على الانقلاب على ما تتغنَّى به من مبادئ، فإن ذلك يعني أنها تعيشُ أزمةً غيرَ عادية.