من المتعارف عليه في العلوم السياسية أن الدولة هي الكيان الدائم والمرجعية القانونية لإدارة المجتمع، وأسمى نظام وصلت إليه البشرية حتى الآن هو النظام الديمقراطي، وبناء الدولة على أسس الحكم الصالح يؤدي حتماً إلى إرساء المجتمع الصالح. وقد ذهب هارولد لاسكي إلى أن الدولة هي اللبنة الأساسية التي ترتكز عليها قبة الهيكل الاجتماعي. ولست بحاجة للقول إن الدولة لا تقوم على أساس صياغة الدستور أو إقامة المؤسسات، وإنما تقوم على معادلة التوازن والتوافق بين التكوين السياسي والتكوين الاجتماعي، وعلى هذا الأساس فإن القوى السياسية المتحاورة عليها أن تضع مصالحها الخاصة جانباً وتغلب المصلحة المجتمعية لأن الديمقراطية التي تنشدها هذه القوى لم تعد مجرد إجراءات سياسية أو حصيلة عددية وإنما هي منظومة من القيم وأنماط التفكير، فهي تبنى على أسس ثقافة الحوار والتفاوض واحترام الآراء والاختلاف في وجهات النظر. وفي هذا السياق نحتاج -من أجل حل مشاكلنا- إلى مرجعية دستورية تضمن الحقوق والواجبات، وتكفل عدالة ميزان الحقوق والواجبات وفق مبادئ خمسة هي: الشعب مصدر السلطات، سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه، عدم الجمع بين السلطات الثلاث في يد شخص واحد أو مؤسسة واحدة، ضمان الحقوق والحريات العامة دستورياً وقانونياً وقضائياً، ومن خلال تنمية فاعلية المجتمع المدني، التداول السلمي للسلطة، هل نحن جادون فعلاً في بناء الدولة التي يتسع مضمونها ورحابها لكل المواطنين، بصرف النظر عن توجهاتهم ومعتقداتهم، ويتم فيها بضمانة الدستور تحقيق المساواة والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية والحزبية. أعتقد جازماً أن الذين رفعوا شعار الدولة المدنية وهم لا يفرقون بين القبيلة والحزب ولا بين المدنية والبادية أنهم اليوم بحاجة لمعرفة هياكل ومكونات النظام الأساسي لهذه الدولة، سواء في ما يخص شكل نظام الحكم أو في ما يتعلق بمراكز السيادة وتحديد وظائف وأدوار بنى وهياكل عملية صنع السياسة العامة ما يرتبط بصنع أسس وضوابط الحقوق والواجبات والحريات الأساسية والأحوال المدنية، وغيرها من أمور توزيع القيم المادية والمعنوية داخل الدولة. وبالنظر إلى ما سبق فإننا نتوقع ظهور إشكالية توزيع النفوذ والموارد وربما يثار هذا الموضوع في فحوى القضية الجنوبية وقضية صعدة، فالحراك الذي قبل بالحوار يطالب بنظام فيدرالي، أي وفق اللامركزية السياسية التي تنصرف إلى أسلوب توزيع السلطات العامة الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية وهذا المطلب يتوافق مع هوى الحوثيين وستدخل بعض القوى في مزايدة بعيداً عن الالتزام الوطني وسيكون للفردانية المتمثلة بتقديم المصلحة الشخصية كنتيجة من نتائج التأثير السلبي الذي تركته سياسات الأحزاب خلال المرحلة الماضية في منظومة القيم في المجتمع اليمني. ولست بحاجة للحديث عن ازدواجية الإيمان بالقانون والثأر في آن واحد، وازدواجية الولاء لمؤسسات المجتمع المدني والانتماء إلى القبيلة، كما هو حاصل مع الحزب الاشتراكي والناصري وأحزاب أخرى تحالفت مع رجال القبيلة ورجال الدين. فالملاحظ أن هذه الأحزاب غابت لديها قيم السامح، وغلبت نزعة الحقد والانتقام على إرادة القانون، فالذهاب نحو الفيدرالية سيكون الانتماءات الضيقة على حساب الهوية الوطنية. ومما لا شك فيه أن الانتماء القبلي والمناطقي سيعيقان فاعلية المجتمع المدني، حيث سيحرص كل طرف على نصيبه من السلطة حسب هذه الانتماءات بعيداً عن الشعور بالانتماء للوطن. أخيراً يمكن القول: هل تستطيع القوى السياسية داخل مؤتمر الحوار أن تبتعد عن الفكر الإقصائي وتستخدم بدلاً من ذلك الإقصاء عبر صناديق الاقتراع.