إنَّ الأخبار المتواترة عن استعداد دولة قطر لبناء الأجهزة الأمنية الداخلية اليمنية في المناطق المحررة ، يثير الريبة والقلق بين قطاع واسع من أبناء اليمن ، وبشكل خاص، بين قطاع أوسع من أبناء الجنوب ، وينبع هذا القلق من ثلاثة اعتبارات جوهريه: الاعتبار الأول، هو ، إنَّ المعلوم لدي شعبنا ولدي جميع المراقبين السياسيين ، باختلاف مشاربهم الفكرية ، إن دولة قطر الشقيقة لها إستراتيجيتها الخاصة، المتمثلة في دعم الإسلام السياسي و الأحزاب و الحركات السياسية المسلحة ، المنتمية بدرجة أساسية للتيارات الدينية ، المرتبطة بالإخوان المسلمين . ويتجلى هذا الدعم ، بوضوح لا لبس فيه، من خلال الدور الذي لعبته وتلعبه قطر في كل من ليبيا وسوريا والدور الذي تلعبه في اليمن منذ بداية الحرب فيها ، حيث أنحصر دورها بشكل خاص في دعم حزب التجمع اليمني للإصلاح دون غيره من الأطراف السياسية.
ولا شك أن هناك قوى إقليمية أخرى تدعم التجمعات القبلية والعسكرية والشخصيات السياسية النافذة ، سواء تلك المتصادمة مع الانقلابين أو تلك المناهضة لجماعات الأخوان المسلمين ، وبالنتيجة فأن هذا النوع المتباين من الدعم التي توفره الدول الإقليمية لا يساعد على قيام دولة وإنما يفتت الدولة المهشمة القائمة.
وفي هذا السياق فأن للدعم القطري ، تأثير بالغ لأنه يفضي إلى "تسمين" الأحزاب الدينية المتطرفة، مالياً ، وتعزيز فعاليتها السياسية والعسكرية على حساب القوى السياسية الأخرى. أي بتعبير آخر " أفغنة اليمن"، وتلغيم حاضره المأزوم ، وتعميق عدم الاستقرار والفوضى والخراب فيه ، وتهيئته للولوج في جهنم الصراعات المسلحة التي لا أفق لها.
الاعتبار الثاني، وهو يترتب على الاعتبار الأول ، إذ أن في مقابل دعم دولة قطر للإخوان المسلمين ، هناك قدر كبير من التجاهل لمعانات الشعب اليمني المنكوب بالقوى المتطرفة، المتخلفة ، وتجاهل كبير للكوارث الناتجة عن الحرب المحتدمة ، ونبذ كامل للفصائل السياسية الوطنية ذات الرؤى الديمقراطية الحديثة ، وبشكل خاص تجاهل كامل للدور المتميز لبعض فصائل الحراك الجنوبي والمقاومة الجنوبية الوطنية ، المتحررة من الميول القبلية والعدمية ، و سعيها الحثيث ، الذي لا يكل من أجل إرساء مقومات الاستقرار ، على طريق بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة .
وهذا يعني "تنحيف" القوى الديمقراطية الحديثة ، وبشكل خاص، القوى السياسية ذات الميول الوطنية الديمقراطية التقدمية ، وتهميش دورها السياسي في الساحة الوطنية، وأضعاف فعاليتها السياسية والجماهيرية ، وتحويلها من جماعات فاعلة ، ذات قاعدة شعبية كبيرة ، إلى مجرد جماعات هامشية ، متنافرة ، توطئة للقضاء عليها.
و بالنتيجة ، فأن هذا المسار المشوش للسياسة القطرية في اليمن سيؤدي لا محالة إلى بروز جماعات "طالبان اليمن" وأخواتها ، بغرض الهيمنة على المسرح السياسي في اليمن، تماماً ، كما جرت الأمور في مطلع الثمانينيات في أفغانستان ، عندما تم دعم القوى الدينية المتطرفة ، من قبل الحكومة الباكستانية ، إبان رئاسة ضياء الحق ، و من قبل المحور الرجعي في العالم العربي ، فضلاً عن دعم القوى الامبريالية الكبرى لها ، على حساب الحزب الديمقراطي الأفغاني ذو التوجه التقدمي ، و من ثم جرى تسيِّد قوى التطرف على الحياة السياسية والاجتماعية في أفغانستان ، و أثمر ذلك الدعم وما ترتب عنه من هيمنة للقوى المتطرفة هناك، عن تداعيات سياسية كبرى على العالم وعلى ذلك البلد الجميل ، المسكون بالتنافر القبلي ، الذي يشبه من نواحي كثيرة اليمن ، حسب توصيف الكاتب البريطاني وأستاذ العلاقات الدولية ، فريد هاليداي ( Fred Halliday) ، صاحب كتاب " الجزيرة العربية بدون سلاطين"
الاعتبار الثالث، و ينتج بالضرورة عن السببين السالفين ، اللذين لابد وأن يولدان نتيجة أخرى ، وهو قدر كبير من الخوف من الاضطرابات المستقبلية القادمة ، فالخوف ، كما نعلم ، لا يخلق الاستقرار ، ويدفع إلى العنف في محاولة لاستباق الأخطار المحدقة ، كما يقول علماء النفس . وهذا الخوف لا ينحصر فقط ، في أنه يمكن أن يؤدي إلى خلق ظروف مواتية لتكرار السيناريو الليبي و السوري في اليمن ، وخاصة في الجنوب ، عقب ظهور المليشيات المسلحة ، المتنامية و المتنافرة ، التي تعمل خارج إطار الشرعية ، والمدعومة من قبل أطراف سياسية خارجية متنافسة ، ولكن الخوف صادر عن ما يمكن أن يترتب على هيمنة القوى الدينية المتطرفة على المسرح السياسي في اليمن.
إذ لا ريب أن هيمنة القوى المتطرفة ، سيترتب عليها تدخل القوى الامبريالية الكبرى ، وخاصة الولاياتالمتحدةوبريطانيا وإسرائيل ، تحت ذريعة محاربة التطرف ، وحماية المصالح السياسية والإستراتيجية والممرات المائية الدولية في هذه المنطقة الحيوية من العالم. وبذلك تكون قطر ، التي تسعى حالياً ، على الأقل ظاهرياً ، إلى تحرير اليمن من الفوضى وإعادة الشرعية إليه، قد نجحت في دفع اليمن إلى أتون الفوضى ، وخذلت الشعب اليمني في الشمال والجنوب ، وخدمت في المقابل مصالح القوى الامبريالية والصهيونية.
قطر دولة ، أو بالأحرى دويلة عربية صغيرة، لا يزيد عدد سكانها الأصليين، عن 300 ألف نسمة ، أي أقل من نصف سكان محافظة لحج ، البالغ عددهم حوالي 875000 ، ولا تزيد مساحتها عن 11586 كيلومتر مربع، أي أقل من مساحة محافظة لحج البالغة: 15210 كيلومتر مربع ، ولكنها دولة غنية ، يتجاوز أنتاجها السنوي الإجمالي 421 مليار دولار ، بينما اليمن، بسكانه البالغ عددهم حوالي 25 مليون نسمة ، وبمساحتها 527,97 كيلو متر ، التي تزيد عن مساحة أسبانيا ، البالغة 505,990 كيلومتر مربع ، و أكثر من ضعف مساحة بريطانيا العظمى، البالغة 242,495 كيلو متر مربع، لم يزد الناتج الإجمالي السنوي لها عن 65 مليار دولار ، حسب المعطيات الإحصائية لعام 2010، وقد أنخفض الناتج المحلي الإجمالي لليمن كثيراً خلال السنوات المنصرمة ، و بشكل خاص أثناء الحرب المستعرة ، ووصل حوالي 80% من الشعب اليمني إلى حالة بائسة من الفقر الذي ليس له نظير في تاريخ اليمن.
خلاصة القول ، قطر دولة غنية ، بصرف النظر عن حجمها ، ويكفي أنها أنفقت أو استثمرت في الرياضة خلال الخمس السنوات المنصرمة ما يزيد على 3 مليار دولار ، وتسعى لاستضافة كأس العالم 2022، الذي سيكلفها 160 مليار دولار في أقل تقدير. وهناك المليارات التي تنفق على الجماعات الدينية المسلحة في ليبيا وسوريا وغيرهما ، وعلى الأعلام المواكب لنشاطها السياسي والعسكري ، بهدف قيام "الخلافة الإسلامية" مع " صديقتها العثمانية الجديدة، بقيادة رجب طيب أوردغان ، الغارق في أوحال الانقلاب الأخير ، و مع ذلك يمكنها أن تلعب دوراً ايجابيا في كل المجالات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية في المناطق المحررة، إذا أرادت ذلك ، واعتمدت الحكمة ، و استرشدت برؤية عربية قومية في خدمة مصالح الأمة العربية ، وهو الأمر الذي سينقلها من مجرد دويلة ، و محمية أمريكية ، تحتوي على أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة ، و تملك " مصرفاً كبيراً وقناة فاجرة ، " ، وتؤدي وظيفة سياسية مربكة ، وربما مشبوهة ، إلى دولة يمكن لها أن تكون ينبوعاً للتقدم ، الذي من شأنه أن يتفجر على قطر ذاتها ، وعلى أشقائها الأقربين والأبعدين ، وبذلك تتحول قطر من دولة مؤذية إلى دولة فاعلة و نافعة ، تجسد جوهر وتطلعات الشعب القطري الشقيق ، و تطلعات الأمة العربية كلها في الاستقرار والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم، خارج أوهام الإمبراطورية المزعومة والإحساس الزائف بالعظمة، الذي ينبع من شعور حاد بالنقص.
ليس مطلوباً من قطر أن تتحول ، بالطبع ، إلى دولة يسارية ، مناهضة للامبريالية، مثل كوبا أو فنزيلا ، وليس مطلوباً منها أن تبشر بالاشتراكية الديمقراطية وتحقيق الوحدة العربية ، وليس مطلوباً منها أن تتحول إلى دولة ليبرالية من طراز رفيع، كالسويد وسويسرا والنمسا ، وليس مطلوباً منها حتى أن تحارب القوى الدينية المتطرفة التي تسمم التسامح الديني وتقوض المجتمعات العربية، المطلوب منها فقط وقف دعم القوى المتطرفة. نقطة على السطر. لدي قطر ، بإمكانياتها الاقتصادية الهائلة ، فرصة تاريخية مواتية للتميُّز عن غيرها من الدول بدلاً من التخبط السياسي والاقتصادي والإعلامي العبثي ، الذي يلون سياستها الخارجية . إذ يمكنها ، أن تتحول إلى " تايوان أخرى" ، وتساهم في جعل محيطها العربي ، دولاً ناهضة ، وليس مجرد دول فقيرة ، ممزقة ، كالسودان والصومال وليبيا وسوريا ، بفضل حماقتها الفائقة وثروتها الوافرة، وفي هذا الإطار ، مثلاً ، يمكن لقطر أن تقدم دعماً حقيقياً للشعب اليمني ، من خلال دعم التعليم والتنمية الزراعية ، والبنية التحتية ، والصناعات التحويلية وغيرها، ومساعدة المقاومة الجنوبية، المنبثقة من صلب الحراك الجنوبي، التي تحمل مشروعاً تقدمياً لبناء دولة النظام و القانون.
وفي هذا الإطار يمكن لقطر أن تساهم في خدمة الاستقرار في اليمن ، وخاصة في المناطق المحررة في الجنوب بعدم دعم الفصائل المسلحة ، والكف عن إنشاء فرق أمنية جديدة ، تضاعف من التوتر القائم ، والتوجه بدلاً من ذلك للمساهمة الفعالة في البحث عن تسوية سياسية للأزمة اليمنية ، التي تعصف بحياة الملايين من أبناء الشعب ، وتقديم المساعدات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة التي من شأنها أن تخلق بيئة ملائمة للتحول الاجتماعي وانتقال قطاع كبير من الشعب من مهنة الحرب العبثية إلى مهنة السلام و الاستقرار والتنمية والتقدم.