ترددت كثيراً في الكتابة عن الفقيدة العزيزة الإعلامية الكبيرة نبيلة حمود ، وهي التي اعرفها تمام المعرفة منذ سنوات عدة تتجاوز العقد الثالث . وقد عرفتها تلك الفتاة المفعمة بالنشاط والمحبة للعمل الإعلامي إلى درجة العشق . أحسست بثقل أناملي وهي تهم بالنقر على مفاتيح الحروف الأبجدية لجهاز الحاسوب . وسالت نفسي عما أكتب ؟ وعمن أكتب ؟ ولماذا أكتب ؟ ومن سيقرأ ؟ وما الفائدة من الكتابة عما تسرب من بين أيدينا ومن أمام أعيننا في حين كان بإمكاننا الحفاظ عليه؟
وحتى كتابة هذه السطور ما زال الشعور باليأس يدب في ثنايا روحي .. خاصة إننا نعيش واقعاً تشتد مرارته يوماً عن يوم ، ووضعاً يزداد ضبابية ، فيحيل حياتنا إلى لغز كبير لا نفقه طلاسمه.
تعرفت على النبيلة نبيلة حمود في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم ، حين رأيتها لأول مرة في مبنى نقابة عمال جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، الكائن في مدينة المعلا بعدن ، كنت حينها أعمل محررة صحفية في صحيفة " صوت العمال " بعد تخرجي من جامعة موسكو ، وكانت الصحيفة ناطقة بلسان حال النقابات العمالية ، وتوزع مجاناً لكل عمال الجمهورية في مرافقهم عبر لجانهم النقابية المنتخبة من قبلهم . بهرتني جرأة الشابة نبيلة حمود ، وكانت تقاربني العمر تقريباً ، فقد كانت محدثة لبقة وشديدة الثقة بنفسها . دار حديث عابر بيننا ، واتفقنا على تحديد لقاء آخر يجمعنا نتبادل فيه المعرفة في قضايا الصحافة والإعلام . إلا أن هذا اللقاء لم يتم ، وإن كنا نلتقي لماماً في بعض المناسبات العامة ، بحكم انشغالاتنا الدائمة في محيط حياتنا المهنية والخاصة ، حتى قيّض الله لي موعداً في يوم جميل في مكتبها المتواضع في مبنى الإذاعة والتلفزيون في منتصف التسعينيات ، حين كانت تشغل منصب مدير عام البرامج الإذاعية ، الذي لم يطل بها الأمد فيه ، حيث تم استبعادها بعد فترة وجيزة من تكليفها بشغل المنصب ، ولم يتم تعيينها ! وكانت المرة الأولى التي تكلف فيها امرأة إعلامية بشغل منصب قيادي في إذاعة عدن ، بل وفي بقية وسائل الإعلام اليمني ، لذا وجدتها فرصة مناسبة لإجراء لقاء صحفي معها ، ومن ناحية أخرى تحقيق رغبتنا في تبادل المعرفة والتعارف عن كثب . وكان اللقاء .. فوجدتها مبهرة في عشقها لمهنتها ، مدهشة في نكرانها لذاتها لصالح العمل ، وليتها لم تفعل . أما لماذا ؛ فالإجابة معروفة .. إذ ماذا قدم لها زملاؤها في العمل ، الذين رافقوها طوال مشوارها الإعلامي ؟ وماذا قدم لها مدراؤها المتعاقبون على إدارة إذاعة عدن ؟ وماذا فعل كل زميل عمل تدرب على يد نبيلة حمود ، التي كانت نِعم المعلم والمربي في حقل الإعلام الإذاعي ؟ يؤسفني القول أن الكل كان شاهداً ، متفرجاً على جراحاتها وآلامها . سيقول قائل أنه ما باليد حيلة، وأن قيادة وزارة الإعلام المسؤول الأول عن قتل نبيلة حمود التي كل ما كانت تحتاجه هو ألف دولار أو يزيد قليلاً ، لإجراء عملية جراحية في قلبها الواهن لتنهي آلامها وتعود تلك النبيلة المفعمة قوة ونشاطاً معطاءً للإعلام اليمني . ولعل هذا المبرر صحيحاً في نظر هؤلاء ، ولكن إلى متى ننتظر الفرج من صنعاء ؟ إلى متى نظل مكتوفي الأيدي أمام تجاهل هؤلاء الذين في آذانهم وقر وفي قلوبهم غلف فهم لا يسمعون ولا يفقهون ؟ كيف يصل الحال إلى التسليم بالأمر الواقع دون تقديم أية مساعدة لتلك المرأة التي ضحت بسعادتها وأجمل أوقاتها من أجل تطوير الإعلام الإذاعي؟ على الأقل نكافئها على ما حققته من نجاح في مشاركتها بتقديم الحلقة الخاصة لبرنامج نحن والبيئة الذي حصل على الجائزة الذهبية في مهرجان البحرين للإذاعة والتلفزيون لدول الخليج العربي ، وعلى تميزها في تقديم البرامج وفي إعدادها ، لكن لا حياة لمن تنادي . وها هي زميلتنا الصحفية ، الكاتبة المبدعة نهلة عبد الله تسقط فريسة المرض ؛ وأجزم القول أن زملاء آخرين سيتبعها ، فهل من مدّكر ؟ أين وزارة الإعلام مما يجري في المؤسسات الإعلامية في المحافظات الجنوبية على وجه الخصوص؟ إن صمت قيادتي الوزارة والحكومة المؤقتة أمام الكثير من الخروقات ومظاهر الفساد في هذه المؤسسات الحيوية رغم علمهما بها ، لا يعني غير أن إدارة النظام الفاسد الذي ثار الشعب من أجل تغييره ما زال قائماً ، ولم أقل جديداً في هذا الشأن ، فالكل يعلم بذلك .. لذلك فإنه يتطلب التفكير ملياً في اتخاذ موقف محدد من هذا النظام وإدارة البلاد والعباد ، فالمشهد يشي بالموت البطيء لنا كإعلاميين ولوسائل الإعلام في الجنوب التي كان لها الوجه المشرق في العقود الماضية منذ تأسيسها . ولا نقول في الأخير غير حسبنا الله ونعم الوكيل .. ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ) صدق الله العظيم . * خاص عدن الغد