مهمة قراءة وكتابة التاريخ ، المهمة الأولى لدى كل الشعوب الحية وقادتها ومفكروها ورواد نهضتها.. ولا يمكن أن نصل لحاضر ومستقبل حقيقي يلبي تطلعاتنا وطموحاتنا مالم نقرأ تاريخنا قراءة نقدية موضوعية بعيدة عن سيطرة العاطفة وترف المثالية والإيجابية المتسترة برداء الوهم وغطاء الزيف. وعليه فإننا وفي "سفر إصحاحنا السابع عشر" سنقوم باستعراض بعض الجوانب المتعلقة بمهمة إعادة قراءة التاريخ وكتابة الرواية التاريخية والتي تكاد شبه معدومة وشحيحة للغاية وإن وجدت بعض المساهمات والإجتهادات ، فإنها لاتعدو عن "مذكرات سياسية شخصية" يغلب عليها التسييس والتوظيف السياسي البعيد كل البعد عن الغايات والمقاصد التاريخية الصحيحة والسليمة. ولعل من أبرز الأسباب التي حالت دون كتابة تاريخ حقيقي ومحايد للجنوب يعود إلى ممارسات الأنظمة السياسية التي حكمت الجنوبيين والمتمثلة في "مصادرة الحريات وتكميم الأفواه" والسائدة ومنذ وقت مبكر في الجنوب وتحديدا منذ ما بعد الاستقلال في نوفمبر 1967 .. وهو ما جعل الكثير من السياسيين والمثقفين والكتاب يحجمون عن الكتابة والتوثيق وإبداء آرائهم ووجهات أنظارهم واطروحاتهم المتعلقة بالكثير من الأحداث والتطورات والتحولات والمنعطفات التي شهدها الجنوب. ولذلك غلب على بعض تلك المحاولات والأطروحات التي تناولت التاريخ الجنوبي الحديث الكثير من التباينات و الاختلافات إلى حد التشويش وغياب الرؤية الواضحة والتي نستطيع أن نتمكن من خلالها بالخروج بنص تاريخي موثوق نستطيع البناء عليه وإثراءه بالنقود والدفوع ، أكانت مؤيدة لتلك النصوص أو معارضة لها. ومع أن الساحة السياسية الجنوبية تعج بالسياسيين والقادة والمسؤولين الجنوبيين القدامى والمعاصرين ، إلا أنهم بعيدون عن المسؤولية الأخلاقية والتاريخية في تبني أي جهد يؤسس لكتابة التاريخ ويعمل على إزالة النتوء والتشوهات التي خلفتها تلك المحاولات المتعارضة مع بعضها البعض والتي لم تراوح مكانها وهي كما هي لا تقارب بعيدا ولا تقدم جديدا. وفي صورة أقل ما يمكن أن توصف به ، أنها لا تعبر عن الأهتمام المطلوب بقضية التاريخ ومايلازمها من متطلبات بناء ذاكرة حقيقية ومعرفية تلزم الباحث والمحقق الحجة الواضحة والمواقف القوية التي يستطيع من خلالها ان يضيف ما يمكن إضافته وما يمكن تقويمه وتسديده ومقاربته وترجيحه وهي محددات الإطار السليم لأي مسار تاريخي بكل مايحمله من سلبيات وإيجابيات. وكل تلك الأسباب والعوامل شكلت مع الوقت أزمة الجنوب مع التاريخ وأزمة الجنوبيين الدائمة مع الجنوب كوطن وشعب فاقد لبوصلة اتجاه الطريق الصحيحة مع كل التحديات التي يواجهها الجنوبيين وهم مازالوا مغيبون عن معرفة تاريخهم الضائع لكثرة "السرديات التاريخية" والتي ليس لها علاقة بالتاريخ ولا بكتابة التاريخ. وتجدر الإشارة إلى أن بعض تلك السرديات والتي يقدمها أصحابها على أنها "مذكرات سياسية تاريخية" هي في الحقيقة لا تعدو عن كونها "مذكرات شخصية" ولا علاقة لها بالتاريخ وبالمذكرات السياسية أو إن صح لنا تسميتها وتوصيفها ، فهي "مذكرات سياحية" طافحة بالنكات والأمثال الشعبية ولا تخلو أحيانا من الألفاظ والمفردات الجنسية !