وكان نور الدين يكلفه بالذهاب إلى عمه لاستشارته في قضايا تخص الدولة والمكوس، والضمانات، فقد كان نور الدين يهتم بمشاورة كبار قواده. وتسمى هذه الوظيفة - لصلاح الدين - في العصر الحديث كاتم الأسرار ضابط الركن الشخصي لنور الدين. وأما عن كيفية تبوؤ صلاح الدين الأيوبي أعماله الرسمية فقدفصل لنا ابن الفرات ذلك بقوله: ولم يزل صلاح الدين في كنف والده حتى ترعرع، فلما تملك الملك العادل نور الدين دمشق لازم الأمير نجم الدين أيوب ولده يوسف بخدمته، وكانت مخايل السعادة على صلاح الدين لائحة، ومنه تعلم صلاح الدين طريق الخير، وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد حتى ظهر للسير مع عمه أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية، ولم يزل أسد الدين آمراً ناهياً بالديار المصرية، وابن أخيه صلاح الدين يباشر الأمور بنفسه بكل عناية وحسن رأي وسياسة نقد، وفي ولاية أبيه على بعلبك درس صلاح الدين العلوم الإسلامية، وفنون القتال، فضلاً عن فنون لعب الكرة والفروسية، وغيرها من فنون الطبقات الحاكمة إلى جانب براعته في لعبة الجوكان، هي لعبة رياضية أصلها شرقي يمارسها اللاعبون وهم على ظهور الخيل التي ورثها عن أبيه ، فضلاً عن اهتمامه بالعلوم الدينية، ونستنتج من ذلك واستناداً إلى ما تقدم أن المرحلة التي عاش فيها صلاح الدين في الشام، وقبل أن يتبوأ منصباً عسكرياً مهماً، كان يراقب التطورات السياسية والعسكرية الموجودة على الساحة الإسلامية وأبرزها: الصراع مع الصليبيين واعتماد نور الدين على والده وعمه شيركوه، وكان لابد أن بهذه الأحداث وإن لم يشارك فيها، ولا بد أيضاً أن ينمو لديه شعور يحتم عليه أن يعد نفسه للمستقبل ولا سيما للمناصب المتقدمة في الدولة، ويمكن القول أن صلاح الدين نشأ وتربى بين أحضان أسرته، وأخذ عن أبيه نجم الدين براعته في السياسة واكتسب من عمه شيركوه شجاعته في الحروب، فنشأ متشبعاً بالدهاء السياسي والروح الحربية، كما تعلم علوم عصره فحفظ القرآن ودرس الفقه والحديث، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء وأساتذة منطقة الشام والجزيرة منهم الشيخ قطب الدين النيسابوري، وقد تأثر صلاح الدين بالسلطان نور الدين محمود الذي قدم النموذج الرائع للإخلاص المتفاني والشعور الجاد بالمسؤولية الدينية وتعلم منه الإخلاص والفداء وكيف يناجي ربه في صلوات خاصة في محرابه يأخذ منها زاده القوي على الجهاد، وورث عنه قيادة المشروع الإسلامي وتعلم منه كيفية التصدي للمد الشعيي الرافضي، والغزو الصليبي وقد بينت ذلك مفصلاً في كتابي عن الدولة الزنكية وسيرة نور الدين محمود الشهيد. لقد درج صلاح الدين على طريق العز، ونشأ على الفروسية، وتدرب على الحرب والجهاد ومارس السياسة وتدبير الأمور، وكما يقول الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وفي المدة التي قضاها في دمشق بعد استيلاء نور الدين ابن عماد الدين زنكي عليها، ظهرت شخصية صلاح الدين الفذة، فكان محل احترام وتقدير، بل كان له من الاعتبار والمكانة ما لابن حاكم دمشق نفسه، وقد ظهر أمام المجتمع بمظهر الشاب الهادئ المهذب المتدين، المتقد غيرة على الإسلام والمسلمين بما طبع في نفسه من أخلاق نور الدين الذي أنزله لديه منزلة خاصة، ومن المناصب التي أسندت إليه في دمشق - في عهد نور الدين - منصب رئاسة الشرطة وقد قام بهذا المنصب أحسن قيام، واستطاع أن يطهر دمشق من عبث اللصوص ومن شرور المفسدين، فأعاد الأمن والاستقرار في ربوع الشام، وبات الناس يأمنون على أنفسهم وأموالهم وينعمون بنعمة الحياة الهادئة المطمئنة الكريمة، ولعل حسان بن نمير المعروف " بعرقلة" الدمشقي يوضح في فرحته بيوسف صلاح الدين لتسلمه رئاسة شرطة بلده، وذلك حيث يقول: رويدكم يا لصوص الشام فإني لكم ناصح في المقال أتاكم سمي النبي الكريم يوسف رب الحجا والجمال فذاك يقطع أيدي النساء وهذا يقطع أيدي الرجال وأما المدة التي قضاها صلاح الدين في مصر فتعد من أعظم الأيام التي أظهرت بطولته الفائقة وحنكته الحربية النادرة، فقد لازم عمه أسد الدين شيركوه في حملاته الثلاث على مصر، وكان من ضمن رجاله الأفذاذ، فقد أظهر البراعة العظيمة والعبقرية الفذة في فنون الحرب والقتال، فبتدبيره وذكائه وحسن تصرفه استطاع مع عمه أسد الدين أن يضم مصر إلى الدولة النورية بعد تخليص الشعب المصري العظيم من براثن الدولة الفاطمية الرافضية، وتلخص مما تقدم أن صلاح الدين نشأ في السنين الأولى من طفولته، وفي العقد الثاني والثالث من شبابه على الفضائل الكريمة، والخصال الحميدة، واكتسب في مجالسته للأمراء، ومن مصاحبته للقادة العادات الأصيلة، والمهارة الحربية، والغيرة الإسلامية، والشجاعة المادية والأدبية وهذا ما أهله باستحقاق وجدارة لأن يكون من الشخصيات الفذة التي هزت الدنيا وساهمت في صناعة حقبة مهمة من التاريخ الإسلامي العظيم. رابعاً: متى بدأت الدولة الأيوبية: يختلف المؤرخون حول تاريخ ابتداء الدولة الأيوبية، فالبعض يجعله منذ تولي صلاح الدين الأيوبي الوزارة من الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله سنة "564ه/ 1169م"، والبعض الآخر يجعله مع إعادة الخطبة في مصر للخليفة العباسي التي تلاها وفاة العاضد لدين الله وانتهاء الخلافة الفاطمية "567ه/1171م"، صحيح أن سلطة صلاح الدين بدأت منذ توليه الوزارة، ليدعمها بخطوة القضاء على الدولة الفاطمية، لكنه من الناحية الشرعية كان لا يزال تابعاً لسلطة نور الدين محمود الذي ما لبث وأن توفي سنة "569ه/1174م"، ولذلك فإن سنة الوفاة هذه هي برأينا تاريخ ابتداء الدولة الأيوبية التي اعترف بها الخليفة العباسي المستضيء بالله سنة "570ه/1175م". المبحث الثاني الرصيد الخلقي لصلاح الدين تميزت شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي برصيد أخلاقي كبير ساعده على تحقيق أهدافه العظيمة والتي من أهمها: الشجاعة، والكرم، والوفاء والتسامح، والحلم، والعدل والعفو، والمروءة، وشدة لجوئه إلى الله، ومحبته للجهاد، وصبره واحتسابه، وحرصه على العلم، والتواضع. . إلخ. وإليكم أظهر هذه الصفات وأميز هذه الأخلاق. أولاً: تقواه وعبادته: قال تعالى:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" [الأعراف: 96] وتقوى الله وتحقيق العبودية الشاملة لله تحفظ العبد من كيد الأعداء ومكرهم، قال تعالى:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما بعملون محيط" [آل عمران: 120]، ولا شك أن تقوى الله وعبادته والخشية منه، وحسن الظن به والاعتماد عليه هي أول ما يجب أن يمتاز به المسلم، وأفضل ما ينبغي أن يتصف به، لأن ذلك يجعل المسلم أسداً كاسراً لا يعرف الهزيمة، وبطلاً مقداماً لا يهاب المنية، وشجاعاً كراراً لا يخشى جباراً، ولا يهاب عدواً، وهذه السمة من الإيمان والعبادة قد تقحققت في القائد البطل صلاح الدين، وإليكم ما كتبه القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد الذي عاصره اجتمع به وعرف أخباره، فحدثنا عما رأى: 1- عقيدته: وكان رحمه الله حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى، قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، فتحصل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التشبيه، غير مارق سهم النظر فيها إلى التعطيل والتمويه، جارية على نمط الاستقامة، موافقة لقانون النظر الصحيح مرضية عند أكابر العلماء، وكان رحمه الله قد جمع له الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوري رحمه الله عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان من شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر، ورأيته وهو يأخذ عليهم وهم يقرؤونها من حفظهم بين يديه رحمه الله. 2- الصلاة: وأما الصلاة فإنه رحمه الله كان شديد المواظبة عليها بالجماعة، حتى أنه ذكر يوماً أن له سنين ما صلى إلا جماعة، وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام، ويصلي جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح، وما كان يترك الصلاة ما دام عقله عليه، ولقد رأيته - قدس روحه - يصلي في مرضه الذي مات فيه قائماً - وما ترك الصلاة إلا في أيامه الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى. 3- الزكاة: وأما الزكاة، فإنه مات رحمه الله تعالى ولم يحفظ ما وجبت به عليه من الزكاة، وأما صدقة النفل فإنها استنفذت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك ومات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية، وجرماً واحداً ذهباً صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، رحمة الله عليه. صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها. ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.