نت/بقلم سالم علي بامثقال كان في الماضي وفي أيام الصبا الجميلة ، والطفولة البريئة ، حينما كان الخيال يسبق الواقع ، والأحلام تزاحم الحقيقة ، والبُأس تطرده السعادة ، التي تغمر القلوب ، حينما كنا نلعب على الرمال ، والسماء تمطرنا بقطرات لطيفه، ويعقبها شروق الشمس، لتظهر ألوانُ الطيف الجذابة. وكانت الأيام تقص لنا حكايات من الأساطير ، مما كانت في القرون القديمة ،فكم روت لنا أساطير مخيفه ، عن دينصورات متوحشة ، وحيوانات كبيرة وضخمة ، أشكالها مفزعة ، تفتك بالبشرية ، وتلتهم كل ما تراها أعينها ، وتدمر كل ما هو جميل ، وتقلق بخطواتها كل أمن ، فكم هي مزعجة لعقولنا، فقصصها مرعبة ، تجعلنا نشمئز من تلك العصور والأزمنة ، مع أن عقولنا الناضجة تيقن إنها أساطير كاذبة ، وواقع لا مكان لها في الحقيقة ، ولكن استقرت في عقول البعض منا إنها حقيقة ، وكبرت الحقيقة الكاذبة معنا . وما إن مضت تلك الأيام من أيام الطفولة وكبرت عقولنا وأنكشف الغطاء ، نتفاجاء بأسطورة مخيفة جديدة ، فكلما أحاول أن أدقق النظر وأتمعن فيها ، بعدما انجلت تلك الحقيقة الكاذبة ، أجد إن الأسطورة الجديدة لم تكن أسطورة ، فهي حقيقة ، فهي أسطورة لفكٍ مفترس، يعثو في الناس كما يعثوا الجراد المنتشر في الحقول المحصدة ، فيفسدها وتتلف كل محاصيلها فكم تشمئز القلوب من هذا الفك المفترس ، الذي يحوّل القلوب التي تغمرها السعادة والأمل ، إلى تعاسة تملأها كآبة ، أعلها الإحباط والإطراب في الأمل ، وأدناها معاناة تجر أنواع الأسى . فكانت قصصه تطرأ على الأذهان ، ونيقن حقيقتها ، ولم أدرك بأنني سأشعر بمرارة من يمر بهذا المتوحش الخطير ، وفجأة شعرت بقربه ووجوده في حيّنا ووطأة قدماه في من كان بيننا حينما كان يفترسا جاري الحبيب ، الذي لا يقوى على مقاومته ، وهو يتلذذ هذا المفترس في افتراس فريسته الضحية وبكل هدوء ، وامرأة في الحي المجاور ، وطفلة في مكان أخر، حتى وقع بمن يملأ قلبي حبه وتخالط بين وبينه صداقة حميمة ، فيكون فريسة لهذا الوحش ، حتى قضى عليه وأنا أراه بين أنيابه حين افتراسه ، واقف عاجزاً ولا أقوى على مساعدته وانتشاله من بين أسنانه المتوحشة ، فكم هو مفترس وكم كانت الأسطو رة الكاذبة ممتزجة بالحقيقة ونلامسها ، فنظرت متأملا كيف الخلاص والقضاء عليه ، ومحاربته محاربة شعواء ، فقررت أن أعد العتاد ، وأجمع السهام والنبال ، واحمل رمحي وترسي، وأضع على عمامتي ريش الانتصار ، في مواجهة هذا الفك المفترس . فنظر إلي من كان يترقب أنتفاظتي ، ويشعر بعصارات قلبي وهي تحترق على صديقي الحبيب وجارتي الضحية ، والطفلة التي أنتُهِشت بأنياب حِداد ، وهي زهرة تزهوا بجمالها ، وتعبق برياحينها . فستوقفني قائلاً : على ما أرى لباس الحرب وكأنك تواجه أربعين فارسا؟ فصرخت قائلاً : سأبارز بعتادي من يطفئ الشموع لنبقى في الظلام ، وأقاتل برمحي من يتسلل الأشجار المثمرة ويسير بفروعها كالثعبان ، وسأجعل سهامي تنسف وجوده ليعم السكون في الإرجاء والكون ونعيش بأمان . فقال لي : لن تستطع وإن جمعت كل قوى بني الإنسان ، فلفت انتباهي على ما كنت أجهله ، وشعرت بأن هناك سلاحا فتاكاً ، به نستطع أن نحاربه . فقلت له هل لك بمأزراتي ؟ والوقوف معناً للخلاص من هذا الفك المفترس ، ونرسم سويا على شفاة البشرية الابتسامة ، وننسى حرارة الأحزان كحرارة الصيف المحرقة ، ونزهوا بجمال الربيع بعيدا عن هذا الوحش القاتل الفتاك . فتبسم ومد يداه نحوي وقال لي أنظر لمن خلفك ، فستدرت فوجدت بإنُاس كثيرون من خلفي ، وهم يمدون لي يمناهم ، والبسمة تملأ محياهم كأنها القمر في بزوخ الشهر ، واعينهم قائلة لي ، لنجعل أيدينا مترابطة ببعضها البعض ، ونحارب من قتل الآباء والأمهات ، واباد البنين والبنات ، بسلاح العلم ، لتستبين لنا الطريق . ألا تعلمون من هذا هو الفك المفترس ؟ الذي أقلق المضجع ، والذي يجعلنا منه نهرع ، إنه السرطان الذي نفيت من أوصافه الرحمة للكبير ، ويبدأ بالشباب والصغير. فبعلمكم أيها الأطباء وتعلمك تقطفون الأزهار من بين الأشواك وبأيدكم الناعمة توقرون في القلوب الأمان ، وتجسدون على الشفاه أجمل الابتسامات . وبعطائكم أيها المحسنون تشعلون الشموع ، وبصدقاتكم السخية تمسحون الدموع ، فتظللكم في يوم يكون إلى الله الرجوع ، فأنه عند الله يبقى ولا شيء عند الله يضيع . وبكم أيها المؤسسات الخيرية تعبدون الطريق ، وتطفئون مما في القلوب من حريق ، فبكم كم من نفوس أُحيت ، فهرموا بمرضهم ثم بكم من جديت ولدت . فلكم جميعا من الله المثوبة ، ويجعلكم يوم لقائه مغفورين الذنوب والخطاية ، ويكتب أجركم في عليين ، ويجعلكم من المقربين وكل هذا في بداية الامري ونهاية توفيق رب العلمين ، والحمد لله رب العالمين ، وقولوا جميعا بما قاله الله في كتابه الكريم . (( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا إن هدانا الله ))