ورقة مقدمة لمؤتمر الحوار الوطني لفريق بناء الدولة من الأستاذ حسن شكري ممثلا عن الحزب الاشتراكي اليمني. نص الورقة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ثمة حاجة ماسة الى التدقيق في صياغة السؤال عن شكل الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، والملبية للاحتياجات الموضوعية لقيام الحكم الرشيد وتأمين السلم الاجتماعي والاتجاه نحو التنمية الشاملة هل هو: - أي شكل الدولة-: أهو الدولة المركبة - الاتحادية أم الدولة البسيطة؟ فالتجربة التاريخية والحاجة الملحة في اللحظة الراهنة تقضي بالتساؤل هل من سبيل بعد هذا المخاض العسير منذ حرب صيف 1994 التي انقلبت على الوحدة السلمية والشراكة الوطنية، لأن تكون الدولة مدنية ديمقراطية وتكون في ذات الوقت دولة بسيطة؟ إن الدولة البسيطة غدت متنافية مع ليس فقط أي مشروع ديمقراطي، أو أي مشروع حكم رشيد، بل هي في المقام الأول متنافية مع أي امكانية للحفاظ على الوحدة اليمنية -إلا أن تكون وحدة القهر والغلبة.. وتسارع المسار نحو حرب أهلية.. وتجزء اليمن وتفتتها.. ومثل هذه الكارثة ينبغي ان تتشابك أيادي اليمنيين معاً وتعمل عقولهم بوعي وبصيرة لدرئها قبل ان يحترق اليمن من أقصاه الى أقصاه كما تنذر النذر.. ويكتب من يكتب في المستقبل بالقول عنها مجدداً: تفرقوا أيادي سبأ. حتى صيف العام 2006 عام أول تجربة انتخابات رئاسية جدية، كان النضال الديمقراطي المحصور في قضية الديمقراطية هي التي أوليناها في الحزب الاشتراكي اليمني عنايتنا، باعتبار أن اصلاح مسار الوحدة سيتحقق كنتيجة من نتائج الاصلاح الديمقراطي الشامل. إلا ان الانتخابات الرئاسية لعام 2006 التي سمح لها ان تكون جدية لأول مرة كما هزت هيبة النظام وكشفت عن امكانيات الكفاح الديمقراطي على احراز نجاح جدي في الحشد الشعبي غير المسبوق في مواجهة حاكم كان قد استقرت في النفوس أبديته، دفعت النظام الى اتباع سلسلة اجراءات تقتص من الزوائد الديمقراطية التي كان قد سمح بها وأفضت الى تلك المنافسة الانتخابية، وإذا بالمعارضة الديمقراطية المجسدة في تكتل اللقاء المشترك تغدو ملاحقة بسلسلة إجراءات عقابية بعد ان بترت الزوائد الديمقراطية واحدة إثر أخرى. أدت سياسة النظام لانتهاج العجرفة والعنف والتخوين الى مزيد من الضغط وتضخم اليأس من امكانية ان يكون الاصلاح الديمقراطي الشامل الذي انتهجه الحزب مفضياً لإصلاح مسار الوحدة، وهو ما فجر في العام التالي عام 2007 ظاهرة الحراك الجنوبي الاجتماعي والسياسي السلمي، الذي أطلق العنان للقضية الجنوبية، وصعد بها مرتفعات السياسة اليمنية، وانتزع بها اعتراف ودعم «اللقاء المشترك» الذي انخرطت منظمات احزابه في الجنوب ضمن فعاليات الحراك، بل وأخذت نسائم الحراك السلمي الجنوبي تهب على المحافظات الشمالية وتحرك المناخات الراكدة، فتنطلق مسيرات ومظاهرات، وتضرب اعتصامات، وتنحشد الجماهير الغفيرة في مهرجانات وصولاً الى ابتكار اشكال حراكية مناظرة لما في الجنوب. وقد كان تصاعد هذا المد الشعبي بامتداد الوطن اليمني كله، وتحت تأثير الحراك الجنوبي، يكتسب وقوداً جديداً، من النكوص المتلاحق للنظام عند تنفيذ مختلف التفاهمات والاتفاقات التي ابرمتها المعارضة الديمقراطية معه بشأن إجراء اصلاحات نزيهة على العملية الانتخابية العامة الساعين إليها.. كان النكوص عن تلك الاتفاقات يسد الآفاق كاملة أمام آمال الاصلاح الديمقراطي، وهو ما جعل التوثبات الشعبية المتعاظمة والمتجمعة لاطلاق ثورة شعبية سلمية، تنتظر الاشارة مع انطلاق الثورات الشعبية السلمية في تونس ومصر، لتندلع في اليمن في 11 فبراير 2011. وكما اطلق الحراك الجنوبي العنان للقضية الجنوبية، بحيث يغدو حلها قائماً على الفدرالية بإقليمين لهما ندية التمثيل في مؤسسات وهيئات الدولة العليا مع استكمالها بفدرالية الاقاليم الفرعية، ونظام الحكم المحلي الكامل الصلاحيات فإن الثورة الشعبية السلمية قد عمدت هذا الحل، وجعلت من العصي كلياً امكانية استبصار حل آخر لشكل الدولة المدنية الديمقراطية، إلا أن يكون شكل دولة الوحدة الفيدرالية المكتملة، أي الفدرالية المكتملة بفدرالية الاقاليم الفرعية، وبنظام الحكم المحلي التام الصلاحيات. ومن كمال مدنية الدولة الديمقراطية، أن تكون برلمانية، والأمر الثابت أن الفدرالية والبرلمانية أُسّان وشرطان لا غنى عنهما لمدنية الدولة وللحكم الرشيد، وتأمين السلم الاجتماعي والاتجاه بحق نحو التنمية الشاملة. لقد كان اليمن ولا شك بحاجة الى الحراك الجنوبي السلمي، والى الثورة الشعبية السلمية لكي تتوفر معهما وبعدهما المناخات المطلوبة والمشروطة لاستعادة وحدة 22 مايو السلمية، واستعادة الشراكة الوطنية الندية. قبل ذلك التاريخ فإن فكرة الوحدة الفدرالية البرلمانية مرقت في تاريخ اليمن المعاصر كخيال ظل عابر، وفي أحسن الأحوال مجرد مشروع يحمل النوايا والمخطط المرسوم على الورق كما فعل الزعيم العربي التونسي عبدالعزيز الثعالبي بنقل مشروع وحدة فدرالية - برلمانية، ووفق دستور ديمقراطي، اتفق عليه مع كبار سلاطين الجنوب عام 1924 الى الإمام يحيى، فالأساس التاريخي والاجتماعي والسياسي لم يكن مهيئاً حينها كما هو اليوم، فحينها؛ كان استبداد الثيوقراطية المطلقة والاحتلال الأجنبي حاجزين مانعين لإمكانية تحقق أي مستوى من مستويات الوحدة أو الديمقراطية. وشبيه بذلك مشروع دستور الأحرار المسمى «مطالب الشعب» عام 1956، الذي طالب بنظام اللامركزية والحكم المحلي للاقاليم، معتبراً ان الحكم المحلي أساس المواطنة المتساوية والبديل للنظام الاستبدادي السائد؛ فبين النظام السياسي القائم بالكلية على الاستبداد وبين نظام اللامركزية والحكم المحلي للاقاليم حائل استحالي، كما هو حال نظام ما قبل الثورة الشعبية السلمية اليمنية حين ادخل الى القانون نظاماً اسماه بالحكم المحلي ليلتف عليه من أبواب أخرى، فيفرغه من محتواه ويحيله شكلاً بلا مضمون. ومثلما أن الفدرالية إحياءٌ للوحدة اليمنية، وعملية استعادة مطلوبة لوحدة 22 مايو السلمية والندية وضمان جديد لها، فكذلك هو النظام البرلماني قوة ضامنة أخرى للوحدة بمثل ما أنه قوة ضمان مماثلة للديمقراطية. ويغدو النظام البرلماني أكثر متانة وحيوية للصالح الديمقراطي كما للصالح الوحدوي، حين يكون من غرفتين، فيمكنه ذلك من التمثيل المتوازن للاقليمين الكبيرين وللاقاليم الفرعية والمحافظات، كما أن الوظيفة التشريعية تصبح أكثر توازناً، وفوق ذلك يتعزز دوره الرقابي المطلوب بنفس قدر دوره التشريعي. يقدم النظام البرلماني -وخصوصاً ذو الغرفتين- ضمانة أكبر بكثير من النظام الرئاسي لتداول السلطة، وبالأخص للتداول السلمي للسلطة، ويجعل السلطة التنفيذية -أي الحكومة- أكثر حيوية وأفضل عطاءً وامتثالاً للمراقبة والمحاسبة. غير أن النظام البرلماني لكي يغدو نظاماً برلمانياً حقاً، وضامناً للديمقراطية، لا تكفيه مجرد شكلية النظام البرلماني، فلابد من أن تتوفر معه دعائم ومنظمات النظام الديمقراطي، من نظام انتخابي نزيه وشفاف، اساسه اللائحة النسبية، على أن يكون مثل هذا النظام الانتخابي محمياً بقضاء مستقل حقاً ونزيه حقاً، وإعلام حر مستقل غير خاضع للسلطة التنفيذية ولا لسلطة طغمة مالية أو اجتماعية، مع ضمان فعلي لحيادية المؤسسة العسكرية والأمنية من عدم التدخل أو التأثير على العمليات الانتخابية أو على أي من انشطة السلطات الأخرى التنفيذية والقضائية والتشريعية، وهو الأمر الذي ظلت تمارسه المؤسسة العسكرية والأمنية بصورة سافرة على السلطات الثلاث، فظل ينعكس على العملية الانتخابية بإفسادها، وعندئذٍ تنعدم الجدوى من النظام البرلماني.. إن كافة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية إن لم تطبع بالطابع المدني وتلتزم بوظيفتها الحامية فعلاً للدولة المدنية والمنتجة لها، لا ينفع معها عندئذٍ النظام البرلماني. إن الوظيفة التشريعية والرقابية للنظام البرلماني لانتاج دولة مدنية ديمقراطية ستظل خاملة إن لم تعمل بالقوانين والعهود والمواثيق الدولية، وفي المقدمة منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وكذا لعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماية واتفاقية مناهضة التعذيب... إلخ. إن مثل هذه الدولة، دولة الوحدة المدنية - الديمقراطية القائمة على ركنيها الرئيسيين الفدرالية والبرلمانية، مع ضمان الوظيفة المدنية لكافة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية لا يقوم لها أساس، وليس لها ضمان، إن لم يكن لها دستور مدني - ديمقراطي، ضامن وفعال، ولقد كان نضال اليمنيين أصيلاً ويأتي في بداية كفاحهم من التاريخ المعاصر من أجل دستور ديمقراطي. ولهذا فالحاجة الى دستور ديمقراطي حق، ومنتج حق للدولة المدنية الديمقراطية هو ما يستوجب المناقشة الواعية، ليس لمادة بعينها من مواده كما هو السؤال بشأن المادة الثالثة من الدستور الراهن، بل الاتجاه نحو دستور جديد حقاً وبديل حقاً لدستور انتج ورسخ النظام الاستبدادي الذي ثار الشعب عليه.