تعد فضيلة التسامح في رأي ستيفن. إم . ديلو Steven M. Delue واحدة من القيم التي تحظى بمكانة متميزة في العديد من النظم السياسية الليبرالية، وكما أن تلك الفضيلة يمكن أن تقود إلى توفير الحقوق الأساسية للمواطنين، فإنها «أو غيابها بمعنى أدق» يمكن أن تقود وبشكل مثير للسخرية والاستغراب إلى تعطيل تلك الحقوق في المجتمع الذي لا يعرف أي نوع من أنواع التسامح. والتسامح - برأيه - يقوم على افتراض رئيسي أساسه الشعار التالي «لتعش ولتدع الآخرين يعيشون» حتى وإن كانوا ينتمون إلى اتجاهات مختلفة عنك. ومع أن الغالب على الأفراد أن يخافوا من الأشياء التي لا يثقون فيها أو يتجاهلونها، ومن ثم أن يكرهوها، فالأفراد الذين يمارسون عملية التسامح مع الآخرين تعلموا كيف يتجاهلون كل مالا يثقون به أو مالا يفهمونه. والمتابع للأحداث الجارية، والصراعات السياسية التي تدور في فلسطين ولبنان، مروراً بالعراق والصومال وافغانستان والعديد من المجتمعات العربية والإسلامية، ونقاط الصراع الساخنة الأخرى الممتدة على امتداد الكرة الأرضية - وعلى الرغم من التفاوت في المشاهد والنتائج - لا شك ستصدمه بشاعة المشاهد والصور المأساوية التي تخلفها الصراعات اليومية هنا وهناك، وستقفز إلى ذهنه فجأة عشرات الصور المماثلة للمذابح التي كنا نقرأ عنها في الكتب والقصص التاريخية، والمتعلقة بغزو التتار والمغول إلى المنطقة في القرون الغابرة، وارتكابها العشرات من المجازر الوحشية في حق الشعوب التي غزتها تلك الجحافل من الجيوش الهمجية. والأمر الذي يثير حنق العديدين منا في خضم الأحداث الدامية التي تشهدها المنطقة، أن ما يجري اليوم في العديد من مجتمعاتنا العربية يتم بين اخوة لنا في العروبة أو الدين، ويجري تنفيذه بأيدي عرب أو مسلمين مع كامل الأسف، ممن ينتمون أو يدّعون الانتماء إلى نفس الأرض والمنظومة الفكرية، وإلى نفس العرق أو الأصل، والأخطر إدعاء البعض من تلك التيارات والجماعات الانتماء إلى الدين الاسلامي بقراءات خاصة، وأحياناً تأويلية للنص الديني حرّفته في بعض الحالات عن المعنى المقصود. وحسب الإحصائيات «المعلنة فقط» في التقارير الإخبارية العربية أو تقارير المنظمات الحقوقية أو الطبية الدولية، فالمئات يلتحقون بقوافل الشهداء والموتى والجرحى والمفقودين كل يوم في مشاهد لا يملك من يتابعها إلا اعتصار الحسرة والألم للحال التي وصلت إليها البشرية في عصر يتباهى فيه الإنسان بغزوه الفضاء، وتسخيره البيئة المحيطة به، وتمكنه من تفتيت الذرّة وتطويعها بقدرته العلمية الهائلة. وكان الأولى به ان يسخّر تلك الإمكانيات المادية والبشرية لمكافحة ما تبقى من أمراض معدية أو أمراض فتاكة عجز مع كل علمه وتقدمه من ايجاد أدوية لها «مثل الأيدز، والتهاب الكبد وغيرها» ومحاربة عوامل التصحر، وأسباب الفقر، والحد من المخاطر التي تهدد البشرية بالفناء؛ بدلاً من استنزاف تلك الموارد والثروات في البحث عن أسباب القضاء السريع على الجنس البشري، وتهديد الحياة الآمنة على وجه كرتنا الأرضية. لا أخفيك عزيزي القارئ سراً ان قلت إنني وفي العديد من الحوارات الفكرية التي اشتركت فيها مع العديد من المهتمين بتلك القضايا، ومن خلال المتابعة المستمرة لكل ما يروج من نقاشات وكتابات وقراءات تحليلية للأحداث التي عرفتها المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، خطرت في ذهني العديد من التفسيرات والتأويلات لما يجري في منطقتنا، بعضها أرجعته إلى سلسلة المؤامرات التي كانت منطقتنا هدفاً لها طيلة العقود الماضية بسبب الأهمية الاستراتيجية والثروات النفطية التي تختزنها في باطن أراضيها، وعزوته إلى الدور المشبوه لأجهزة الاستخبارات الأجنبية في المنطقة والتي وجدت بين أبناء المنطقة من يسهل عليها - بسبب التواطؤ أو بسبب انتهاج بعض السياسات الخاطئة - لعب ذلك الدور، أو إلى صراع المصالح وتبادل الأدوار والمراكز بين القوى والأنظمة السياسية في المنطقة، وغيرها من الأسباب التي شعرت - في بعض الأوقات - أنها تلامس ولو من بعيد السبب الحقيقي، والدافع الفعلي الذي يجعل بعض الأشخاص أو القوى السياسية ترتكب تلك الأعمال دون خوف أو وجل أو حياء، ودون أن يردعها رادع من ضمير أو وازع من دين، وإن لم تفسر كل الأحداث التي عرفتها المنطقة خلال السنوات الماضية، والتي جعلت القتل طقساً يومياً يمارس - كما يقال - بدم بارد. ولذا ظل بحثي مستمراً عن تفسير مقنع لتلك التطورات التي عرفتها المنطقة، ولا أحسبني قد وصلت إلى ذلك التفسير بعد، وان كان يبدو لي أنني قد وصلت من تعداد تلك الأسباب إلى قناعة أولية تحتاج إلى مزيد من التبين والبحث والدراسة والاستقراء للأحداث، ومراجعة عميقة لتاريخ الصراعات في المنطقة. وتنطلق تلك القناعة من افتراض مبدئي يقوم على أساس ان كلمة السر التي تفسر - ولو جزئياً - ما يجري في تلك المجتمعات من صراعات وقتال يومي متجرد من كل القيم والأخلاقيات الإنسانية، يجد جوابه الشافي في كلمة واحدة أو ربما كلمتين.. «غياب التسامح» أو بمعنى آخر سيادة التعصب intoleranceوفقدان الاحترام المتبادل بين القوى والأطراف السياسية الفاعلة في تلك البلدان، وهي العوامل التي عملت العديد من النخب والأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم المنطقة على دفعها بعيداً لتستقر في لا وعي شعوب المنطقة، بدلاً من بحثها ومعالجتها، وظل الحديث عنها جزءاً من المكبوت الاجتماعي والسياسي، أو على الأقل من المسكوت عنه واللامفكر فيه، الأمر الذي ساهم في تراكم تلك العوامل بمرور الوقت. وقد يكون بعض من تلك السياسات مبرراً في حينه، لكن يبدو أن هذه العوامل وغيرها شكلت كما يقول البعض «البيئة أو الأرضية الخصبة لعودة الصراعات وتجددها، وبروز الأحقاد إلى سطح العلاقات الاجتماعية والسياسية عند أول سانحة» فقد كانت كالنار التي تخبو تحت الرماد، أو البركان الخامد الذي ينتظر العثور على نقطة ضعيفة في بنية النظام السياسي العربي ليعاود الانفجار وليبرز من خلالها وكأنها كانت تنتظر فقط من يأتي ليعيد إيقاظها من سباتها الذي طال وقد ساعد في ذلك أن العديد من مجتمعاتنا لم يكن قد تربى على فضائل «التسامح» والاحترام المتبادل، ولم يكن العديد من أبناء تلك المجتمعات قد سمع بتلك الفضائل الاجتماعية حتى تكون له معيناً ومرشداً في فترات عصيبة كهذه، فما التسامح؟!. يقال في اللغة العربية «سامحه في الأمر» و«بالأمر» أي «ساهله ولاينه، ووافقه على مطلوبه» والتسامح فعل مشترك يدل على التساهل والملاينة والموافقة، وهو في معناه الحديث يدل على قبول الاختلاف مع الآخرين سواء في الدين أم في العرق أو في السياسة أو على الأقل عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم. وفي بعض قواميس اللغة الانكليزية مثل قاموس «ماكملان Macmillan» تعني مفردة التسامح «Tolerance» «اتجاه الشخص أو مجموعة الأشخاص لقبول معتقدات الأشخاص الآخرين، وطرقهم في العيش.. إلخ، دون توجيه الانتقاد لهم حتى وإن لم يكونوا متفقين معهم». وفي بعض الأحيان تتداخل مفردة التسامح مع مفاهيم أخرى قريبة الصلة بها مثل: "التعايش، التساهل، عدم الممانعة، عدم التعصب أو التشيع لمذهب أو فكرة أو جماعة... الخ". والشخص المتسامح هو الإنسان الذي يقبل وجود الآخرين، ويحترم معتقداتهم وطرقهم في العيش بغض النظر عن اتفاقه معهم من عدمه، بل إنه قد لا يمانع في السماح لهم بحرية ممارسة بعض الأعمال حتى وإن لم يكن موافقاً عليها. والإنسان الذي يعيش في مجتمع متعدد يحتاج إلى التسامح في تعامله مع الجيران، وربما قد يكون من المشروع وضع العديد من التساؤلات: فإذا كانت هذه هي فضيلة التسامح، فما الذي يمنع الأفراد أو الجماعات أو القوى السياسية عن انتهاجها في علاقاتهم اليومية، وهل هناك حدود لممارسة التسامح مع الآخرين؟. سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في تناولة قادمة إن شاء الله. - استاذ العلوم السياسية - جامعة إب