في مذكّرات الأستاذ/أحمد محمد نعمان التي راجعها وحررها د/علي محمد زيد، وقدّم لها فرانسوا بورغا/مدير المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في صنعاء، ونادية ماريا الشيخ/مديرة مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية في بيروت، صفحات من الحياة اليمنية المضمحلة في زمننا كما يبدو وللناظر على السطح ولكنها غائرة في وجداناتنا. فما من شيء يغني في الحياة الاجتماعية كما في الطبيعة ، إذ تتحور الظواهر ويلبس بعضها بعضاً في دلالات متجددة تمزج العناصر القابلة للبقاء وتصفيها كما تصفي الأرض في باطنها مياه السيول، وتنفي الميت منها وفقاً للقانون: «أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» صدق الله العظيم. الأستاذ النعمان رحمة الله عليه رسّام بالفطرة ، يرسم بالكلمات لوحات تعلق بذاكرة القارئ كأنه عاشها واكتوى بنارها، أو ذاق حلاوتها، وما أقل الحلا، وما أكثر العناء في حياة ذلك المجاهد العظيم الذي لو انصرف بكليته إلى الأدب والتسجيل لكان لنا منه حياة ، وأي حياة عوضاً عن دنيا نفوس متنمرة «تعبت في مرادها الأجسام». والأستاذ يتحدث كما يكتب، ويكتب كما يتحدث في تطابق رائع بين اللسان والجنان قلّ نظيره، ولم يكن ذلك نتاج موهبة فحسب ، وإنما نتاج صقل دفع ثمنه كاملاً غير منقوص، ضرباً في الصغر أدمى جسده وروحه من كل من هو أكبر منه في البيت على جاري عادة تلك الأيام، وجوعاً يتذكره كأن لم يشبع بعده أبداً ، وبرداً ظل يصَّر في عظامه الوانية من وضوء الماء المثلج في أنصاف الليالي والأسحار للقيام بالصلوات النافلة والدعاء باللطف في القضاء في زمن كان الخوف بذاره وزرعه وقطافه. وقد عاصر الأستاذ الذي ولد في 22أكتوبر 1909م ثلاثة عهود: «الأتراك، الإمامة، الجمهورية» ولم يجد ملاذاً في بواكير حياته سوى العلم ليتخلص من الضرب ومن الجوع ومن البرد ومن قلة القيمة ؛ فكانت «زبيد» التي رسم لها صورة منورة كمدينة علم مباركة كان يقال عنها: «من لم يتعلم في زبيد فليلمس أحجارها». يصفها الأستاذ : كانت من المدن العلمية الكبيرة ؛ تدرّس فيها اللغة العربية والشريعة، وفيها علماء ، وهي أشهر مدينة بعد صنعاء ، يُنظر إليها كأنها مدينة مقدسة، وقد وصلت إليها بعد سفر استغرق خمسة أيام من الحجرية، فذهبت إلى الرباط ، المدرسة. حيث يرابط المتعلمون ، وتوجد في زبيد أراضٍ موقوفة على المعلمين والمتعلمين وهي مشهورة بذلك وبعلمائها من آل الأهدل الذين يُعدّون أئمة الشافعية في اليمن، ومن بيت الانباري، وبيت السالمي وبيت البطاح، والجميع يتوارثون العلم من أيام مؤلف «القاموس» مجد الدين الشيرازي الذي ألّفه في زبيد ، وهو أعظم موسوعة عربية. وقد أقمت في «الرباط» الذي توجد فيه حجرات للمتعلمين، وكانت من أسباب سروري حيث الأسرّة من خشب ومن سعف النخل. وزبيد مشهورة بصناعة الأسرّة والنجارة والحبال التي يشبكون بها الأسرّة ويتفننون فيها بحيث تجلس على السرير دون الفرش، وهم يبرمون الحبال بطريقة عجيبة وكلها من سعف النخل. وللطلاب مقررات من الأوقاف للمعيشة، وتوجد في زبيد قاعدة تقضي بأن أي شخص يموت يقوم أهله بتوصيل طعامه صباحاً وظهراً ومساءً كأنه يعيش مع طلبة العلم مما يؤمّن كميات كافية، وكان الغذاء في زبيد حسناً، واللحوم رخيصة وكذلك العسل وفيها أنواع كثيرة من الثمر. وكانت الدراسة تبدأ قبل ساعتين من بزوغ الفجر ، وكان الطالب يقرأ أمام الشيخ الذي يهز رأسه دون أن يشرح أية كلمة ، ولا ينتظر منه الطالب سوى الإجازة عندما ينهي تغييب المطلوب. صورة فريدة.. لا أدري كم أبقى منها الزمن.. وللموضوع صلة.