ليس من مجتمع لا يمر بمرحلة الحياة القبلية، فهي نواة تكوين المجتمع بعد الأسرة، ولكن تطورات الحياة واتساع المدنية فتت القبيلة، وأوجد أنظمة مدنية بديلة، منها المجالس المحلية أو »البلديات«. يؤاخذ على النظام القبلي انغلاقه على نفسه، وتوارث السيادة، والعادات، والتقاليد والمستوى الاجتماعي الطبقي، وأحيانا الأمراض من خلال زواج الأقارب.. لكن هذه المواريث ليست بالضرورة تكون سلبية »كماهي نظرة الكثيرين إليها«، حيث منها الكرم والشهامة، والولاء للوطن، والتزام العهود والمواثيق.. وغيرها.. ومنها ماهو سلبي كالحروب والثارات، والطبقية، والجهل والعادات البالية. في اليمن تعد القبيلة جزءاً متأصلاً في تكوين النسبة الأعظم من المجتمع، ولم يكن بوسع أحد تجاهل وجودها ونفوذها في أية مرحلة من مراحل التاريخ بل لعبت أدواراً عظيمة في الثورات اليمنية، والوحدة.. لكن في الآونة الأخيرة شهدت الساحة بعض جولات الصدام مع القبيلة.. فقد ظهر ان لجأت بعض القبائل إلى أعمال خطف سياح، أو عاملين أجانب، أو قطع طرق من أجل فرض بعض المطالب المتعلقة بمشاريع تنموية أو وظائف على الدولة. ومع أن ذلك السلوك يترجم رغبة في التحول المدني إلا أن الأسلوب خاطئ تماماً، لأن مثل هذه الأعمال تلحق ضرراً كبيراً بالمصالح العامة لكل اليمنيين، علاوة على أنها تسيء لسمعة البلد. إلا أننا أيضاً معنيون بالبحث عن الأسباب التي تدفع هذه المجموعة أو القبيلة إلى فرض مطالبها بالقوة ففي معظم الحالات التي شهدتها اليمن كانت المطالب لاتتعدى مشروعاً تنموياً معيناً أسوة بالمنطقة الفلانية من نفس المديرية، أو وظائف مادامت هذه الشركات قائمة في مناطقهم فيما أبناؤهم عاطلون.. فهؤلاء الناس ليسوا إرهابيين، ولم يسبق لهم الاعتداء على من يخطفونهم، لكنهم قليلو الحيلة في تدبر شؤونهم. أعتقد أن على الجهات المعنية دراسة المشكلة جيداً، إذ ان هؤلاء الناس ضحايا وليسوا مجرمين فهم ضحايا إدارات محلية فاسدة لم تحسن توزيع المشاريع التنموية، فخلقت تمايزاً تنموياً بين المناطق.. كما أنها صادرت الكثير من المعدات والتجهيزات التي اعتمدتها الدولة لتطوير شبكات الري، أو الكهرباء أو تأثيث المراكز الصحية والمدارس وغيرها من متطلبات البنى التحتية.. وبالتالي فإن هذه القبائل طامعة بخيرات الثورة، وهذا العهد الذي تشهد فيه كل مناطق اليمن ثورة تنموية غير مسبوقة. ومن جهة أخرى هم ضحية الجهل، فالفساد الذي مارسته بعض الإدارات الحكومية كرس جهلهم ولم يحثهم على الالتحاق بالتعليم واكمال الدراسة أو الالتحاق بالمعاهد المهنية ليصبحوا مؤهلين للحصول على وظائف في الشركات المستثمرة في مناطقهم .. لهذا هم يريدون وظائف لكن الأمر صعب على الدولة لأنهم لايمتلكون أية خبرات أو مهارات فنية. أحياناً كثيرة عندما نتصفح اتفاقيات المشاريع المنفذة من قبل شركات استثمارية نجد أن هناك نسبة قانونية للعمالة اليمنية مفروضة على الشركة .. لكن عندما نأتي للواقع نجد أن الجهات اليمنية المعنية بهذه المشاريع لم تكترث لإلزام الشركات بتشغيل نفس النسبة من العمالة اليمنية وهذا تفريط مجحف بحق الشباب خاصة ذوي الاختصاصات العلمية الذين يعانون من بطالة. إذن فالمشكلة هي أن هناك فجوة بين مستوى النهوض التنموي الذي شهدته اليمن بشكل عام وبين بعض المناطق القبلية.. ومهما كانت مسببات هذه الفجوة فإن على الإدارات المحلية تحديدها ودراسة احتياجاتها ومباشرة حلول سريعة لها. كما أن على هذه الجهات الوفاء بالتزاماتها لاكتساب المصداقية، وتكثيف حملاتها الوطنية لرفع معدلات الوعي التعليمي والصحي لدى أبناء هذه المناطق وعمل كل مامن شأنه تذويب المسافة التي تفصل هذه المناطق عن بقية بقاع اليمن. لاشك أن لجوء الأجهزة الحكومية إلى تحكيم الأعراف القبلية في مشاكلها في تلك الجهات يعد اعتراف واضح بغياب العلاقة المؤسسية المدنية بينها وبين هذه القبائل وهو الأمر الذي يجب ان يتصدر مهام المرحلة القادمة لتعزيز البنى المؤسسية وسيادة القانون.