تتحدث وزارة الشئون الاجتماعية عن أكثر من خمسة آلاف جمعية ومنظمة غير حكومية، وعن عدد هائل منها مخالف للقوانين، ومنذ أعوام وهي تتوعدها، لكن لا أحد يعلم في أي عام ستنفذ وعيدها! على أرض الواقع لم يعد هناك من يكترث للمسائل القانونية المرتبطة بالجمعيات والمنظمات لأن المشكلة لم تعد محصورة في المخالفات المرتكبة، أو الوعيد الذي لاينفذ، بل تجاوزتها إلى الإعلان عن تشكيل تكوينات غير حكومية، ومباشرتها العمل في الميدان تحت توصيف (لجنة تحضيرية)، و (قيد التأسيس)، وغيرها من المسميات من غير أن تكلف نفسها عناء إصدار ترخيص.. والطريف في الموضوع أن الغالبية العظمى من هذه المنظمات يدير كل واحدة منها شخص واحد أو اثنان، وكل منهما يتحدث بلسان 20 مليون يمني. بتقديري أن وزارة الشئون الاجتماعية بريئة من هذه الفوضى (المدنية) براءة الذئب من دم يوسف.. والسبب الأول لتلك البراءة هو أن الجهة المعنية قبل ثلاث سنوات تقريباً نفذت حملات تفتيشية واسعة وعملت مسوحات، وكتبت التقارير، وصنفت الجمعيات والمنظمات حسب أدائها، وعملت أشياء كثيرة رغم شحة إمكاناتها المادية.. لكنها عندما عزمت على اتخاذ إجراءات لتنقية ساحة المجتمع المدني مما علق بها من شوائب اصطدمت باعتذار حكومي عن تمويل تكاليف رفع الدعاوى القضائية.. طبقاً لما ينص عليه القانون لشطب أية جمعية أو منظمة.. وهي المشكلة التي مازالت قائمة حتى اليوم. النكسة التي منيت بها الشئون الاجتماعية كانت أدبية أكثر مما هي مادية، لأنها وضعت قيادة الوزارة أمام أناس يجهرون بتحديهم لها، ويتماودون في استهتارهم، كونهم عارفين أن التقارير والتوصيات بحقهم ستذهب أدراج الرياح، طالما أن الوزارة لاتمتلك حق المقاضاة. أما السبب الآخر الذي يجعل من الشئون الاجتماعية ضحية هو ارتباط نشأة المنظمات بالأحزاب.. ففي كثير من الأحيان تقوم بعض المنظمات بانتهاك القانون في أدائها - كأن تمارس نشاطاً غير معلن في تظلمها الأساسي - وإذا ماحاولت الوزارة تحذيرها فإنها ستصطدم بسيل من البيانات والممارسات الاحتجاجية التي تدافع عن تلك المنظمات، وتفسر الإجراء الرسمي بالمعاداة، وانتهاك الحقوق والحريات والقانون، فتكون هذه الأحزاب سبباً رئيسياً في تفشي الفساد في المجتمع المدني، وتكريس الانتهاكات القانونية والدستورية. وهذا الأمر لايخلو من مفارقة، فبعض الكيانات المستحدثة خارج القانون، تنظم أنشطة سياسية معينة، وتفاجأ الجهات المعنية، بأن مسئولين في الحزب الحاكم أو حكوميين يتعاطفون مع أنشطتها، ويشاركون فيها، رغم علمهم أنها غير حاصلة على ترخيص رسمي، الأمر الذي يفرض هذه الكيانات على أرض الواقع من خلال الشرعية التي أضفاها حضور المسئولين الحزبيين أو الحكوميين..! لو حاولنا اليوم مراجعة أسماء الخمسة آلاف منظمة وجمعية القائمة حالياً لن يصعب علينا إعادة تصنيفها إلى انتماءاتها الحزبية - إلاّ ماندر منها.. ولعل استشراء هذه الظاهرة ينم عن غياب الوعي بوظيفة المجتمع المدني أولاً، ثم انتهازية الأحزاب ثانياً، وعجز تطبيق القانون ثالثاً، وقصور التشريعات الحالية عن إيجاد الآليات الضبطية لعمل تكوينات للمجتمع المدني. إن أكبر مشكلة نواجهها اليوم هي تحول العديد من المنظمات إلى أدوات تكرس ثقافة انتهاك القوانين، والتمرد على الأنظمة واللوائح، وإشاعة الفوضى في المجتمع، وحماية الفساد والمفسدين.. أما الجيل الجديد من التكوينات المدنية التي أعلنت عن نفسها هذا العام فهي متوجهة لتشتيت المجتمع، وتأجيج الأحقاد بين أبنائه، وزعزعة الوحدة الوطنية، كونها اتخذت طابعاً مناطقياًِ، أو قبلياً، أو عنصرياً.. ولم يعد أمام الحكومة غير بحث الحلول مع المعنيين، وتبني إجراءات رادعة قابلة للتنفيذ مهما كانت ردود الفعل إزاءها.