بعث إليّ صديقي الأستاذ الشاعر الغنائي الكبير والمثقف الموسوعي نزيل الراهدة/أحمد الجابري رسالة بالتلفون «مَسِج» يحثني فيها على الصمود وإنزال الهزيمة بالوهن الذي اختار شرايين القلب مسكناً له، وكان في كلماته شيء من الحرارة ممزوجة بقوة متفائلة وقبس من روح محبة جعلتني أنتفض انتفاض جناح عصفور بلله القطر، لكأن القلب تخترقه الكلمات فيتعافى بمقدار ما تخترقه الأدوية والجراحات.. وشتان بين علاج كيميائي أو تدخل جراحي، وبين بلسم من نور الكلمات والمشاعر نحتاجه جميعاً لعبور البرازخ الكثيرة التي نمر على سراطاتها في حياتنا القصيرة كومضة، والمديدة كأنها الدهر؛ لأنها تختزل وتتمثل حيوات جميع من سبقونا ممن تسبح جيناتهم في جيناتنا، وخبراتهم في ذاكرتنا الفردية والجمعية. وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وكنت قبل المستشفى والسرير الأبيض أقرأ في كتاب “أريك فروم” المعنون “اللغة المنسية” مترجماً عن الفرنسية إلى العربية، وفيه سياحة في عالم الأحلام الذي نمر به مرور الكرم، فيما هو مليء بالرسائل والنبوءات والإنذرات وتباشير المستقبل وكوابيس الماضي. ويقول فروم: “إن لغة الأحلام المنسية هي اللغة التي لا تزال عاملة بين أوساط البشرية جمعاء برموز مشتركة بعد أن فرقت اللغات الأخرى هذا العالم الذي انبثق وتطور من خلية واحدة”. وفي أيام المرض بدت لي الأحلام شفافة ومقروءة وحميمية لدرجة أنها قد تتكرم بإيصال معانيها وحل ألغاز رموزها. شكرت الأستاذ الجابري على رسالته، وأنا أغص بالخجل لأنني عجزت عن مساعدته في الانتقال إلى موطن طفولته على بحر التواهي يحلم مثل صاحب «زوربا» اليوناني “كازنتزاكيس” بإنجاز أعماله في المكان الذي يجب. وكان “كازنتزاكيس” يطلب من مواطنيه أن يمنحه كل واحد منهم جزءاً من الدقيقة من عمره ليقدم إليهم حدائقه وفراديسه التي رفعت أدب اليونان الحديثة إلى مصاف العالمية. أما الجابري فكنا نبحث له عن غرفة بحمام على بحر التواهي في زمن الغلاء الفاحش الذي يأكل فيه الأخ أخاه، وحين تحدث إليّ الأستاذ/علي محمد سعيد للاطمئنان لم أجد من اللائق إعادة الحكاية عليه، بعد أن كلف بها صديقي الأستاذ/محمد عبدالودود طارش، الذي يعيد الكرة دائماً إلى ملعبي، فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا، ونحن نقول في المثل الشعبي: «من نسمته بيد غيره يموت معذباً». علماً أنني لا أجيد التهديف، ولا حراسة المرمى، ولا تمريرات لاعب الوسط، الملهم مثلما كان عليّ محسن المريسي في الأيام الذهبية لمجد الزمالك. ثم اتصلت بي نوّارة “جبل صبر” سميرة وقالت إنها مرّت على الدكتور/محمد اليافعي في عيادته بشارع جمال بتعز، فأخبرها عن حالي وأعطاها رقمي، وأنها منزعجة، وأخذت تمطرني بالدعاء حتى تهيأ لي أن كلماتها قد تحولت إلى بساط الريح، وأنني «السندباد» الذي يمخر الأجواء ويعبر البحار ويتصرف بكنوز علي بابا؛ يكسو بلدانها الفاتنة عرائس الجزر المرجانية في أرض «واق الواق». الكلمات مرة أخرى ترمم الجروح، فلا تبخلوا بها أبداً على من تحبون ومن لا تحبون «ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» صدق الله العظيم. أريد أن أنوّه بأصحاب النفوس الكبيرة الذين يغرسون فسائل المحبة والتفاؤل حيثما عبروا أو استقروا أو تحدثوا أو زاروا، وهم أناس يُعرفون بسيماهم؛ لأن ملامح وجوههم تفيض بالنور والبشاشة، وألسنتهم تقطّر الطمأنينة، وتبعث على السكينة. وأتذكر أن أحد الزملاء مرض أيام الدراسة في القاهرة وأدخل مستشفى يبعد عن مركز المدينة حيث يقيم أغلب الطلاب، وكان لا بد له من مرافق ؛نظراً لخطورة حالته، فتقدم الأستاذ الشاعر/عبدالله هادي سبيت، وكان شبه لاجىء في القاهرة مع سلطان لحج علي عبدالكريم ولديه مشاغله وأهله، فأقام مع المريض على فراش غير وثير بجانب سريره لمدة 3 أشهر دون سابق معرفة ودون مقابل إلا ما يمنحه عمل الخير لصاحبه وهو كثير، كثير.. كم من أمثاله بين ظهرانينا ونحن لا نعرفهم؟!.