لا تختلف دارفور عن بقية الأقاليم السودانية من حيث الوضع العام للخدمات والتنمية والتطوير، بل إن دارفور سعدت خلال السنوات الثلاث الماضية بأحد الولاة الرشداء والذي كان له بصمات ظاهرة وخدمات جلية، ويعترف الجميع بأن الوالي السابق للولاية كان على قدر كبير من الحكمة والارادة الرائية لجذر المشكلة، والتي تكمن أساساً في ضعف البُنى الهيكيلة والخدماتية والأمنية، ولهذا السبب ركّز على تلك الخدمات وقدّم جواباً ميدانياً ناجزا لسؤال الأزمة واستتباعاتها. ومهما يكن من أمر، وبالرغم من حسن النية التي تظهرها الخرطوم وتنعكس بياناً وفعلاً على مختلف أوجه الحياة في دارفور وغيرها من أقاليم السودان الكبير فإن الادارة اليمينية الأمريكية لم ولن ترضى عن نظام الخرطوم طالما كان للخرطوم تحفظات جوهرية على المنطق الأمريكي الراهن .. منطق التقزُّم والتسليم والتماهي السلبي مع روشتاتها ونصائحها ونماذجها، و بالمقابل لا يسع النظام ان يتخلّى مرة واحدة وبعملية قيصرية عن ثوابت رؤيته وتقديراته التي تتسم بقدر ملحوظ من تشارك الفرقاء والآراء حتى وإن تباعد أنصار " المشروع الحضاري " عن ساحة الفعل المؤسسي ومعهم عرابهم الأكبر حسن الترابي . لذلك من المطلوب البحث عن الكيمياء الدارفورية الماثلة بوصفها إحدى الشواهد الشاخصة لنظام الهيمنة الكوني لليمين الأمريكي، ذلك ان الولاياتالمتحدة تعسفت المنظمات الدولية، وحولت دارفور إلى بروفة نمطية لخطابها السياسي الصارخ، وأصبحت صور النازحين الأبرياء وسيلة لتعمير التراجيديا الاعلامية الدولية التي تقترن بدارفور ودارفور فقط ، وكأنما العالم خلو من دارفوريات المشهد وأكثر ! . ولقد بدأت الهجمة الامريكية الاعلامية الدولية بالترافق مع أخطاء وخطايا " المشروع الحضاري " السوداني لكن هذه الأخطاء بدأت تنحسر بصورة ملحوظة، وترشّد النظام إلى حد كبير، وانفتحت أبواب التنمية واللامركزية الادارية والمالية، وأصبحت الخرطوم عاصمة مرجعية في أُفق القرار المركزي لا التسيير اليومي. أقول ذلك من واقع مشاهدات شخصية وقراءات بانورامية للصحف اليومية السودانية التي تعدّت الخمسين صحيفة، وفي اشارة دالة إلى معنى التصادمات الحميدة، والتعارضات الحكيمة، والمتابعات الكاشفة للعيوب . لا يتربع سودان اليوم في تلك الطوبى الألفية الحالمة التي طالما تخيلهاالراحل قرنق، وسقاها ببراغماتية السياسي حتى كدنا لانعرف الفاصل في خطابه بين السياسي التكتيكي والرؤياوي العقائدي، لكنه طرح خياراً نظرياً مازال يمثل حلماً بألفية سودانية نابهة، يوم أن ينبري السودان الكبير بوصفه مزاجاً للتعددية الشاملة، وتعايش الانساق، وتجلي المواطنة بوصفها قدس أقداس الهوية، لكنه أمر سيظل بعيداً ووارداً في آن واحد .. قريباً جداً إذا سارت الأحوال بقوة دفعها الراهنة ولم ترتكس.