حقاً إن لله في خلقه شؤوناً، وإن طبائع الناس تتفارق وتتشابه، وأهواء العباد لا يحدها حد، ولا يمكن إدراكها من أول وهلة. لهذا السبب لجأ الأسلاف إلى تجيير طبائع الناس على ألوان الطبيعة وتجلياتها.. فقالوا: إن البشر يتوزعون إلى أربع شرائح .. فمنهم المائي ومنهم الهوائي .. فالناري والترابي . من الواضح أن المسميات آنفة الذكر تتصل بعناصر طبيعية معروفة كالماء والهواء والنار والتراب.. لكن الأوصاف تطال البشر.. فالإنسان المائي يتسم بالتوازن والرقة والقدرة على التعامل مع مختلف الأوضاع والتحولات؛ لأنه ببساطة شديدة شبيه بالماء الذي يتقولب في كل الأوعية , ويتحول بصورة ناعمة , من حالة السيولة إلى البخار .. ومن السيولة إلى التجمد . المائي يجمع بين الطيبة والدهاء الموصول بالحنكة والقدرة على اجتذاب الآخرين .. أما الهوائي فإنه شخصية متقلبة المزاج , حرباوية , يقدر على إغواء الآخرين.. لكنه في نهاية المطاف يقع في شر أعماله . الهوائي أشبه ما يكون بالقرد , يجيد التقليد والنط, يحسن المناورة والمداورة .. ويحمل في جنباته نزعة شريرة يخفيها عن الآخرين. ثم يأتي الإنسان الناري المشتعل دوماً بالأفكار والتخريجات , والذي يجمع بين الحماقة والشجاعة , حتى لا يستبين المرء الفاصل الدقيق بين المستويين.. فالناري قائد ناجح .. لكنه يكبو كالحصان الأصيل؛ لأنه يتورط في حماقاته وردود أفعاله. يبقى الإنسان الترابي , الذي يتصف بالصبر والتحمل , بالدأب والقدرة على تحقيق الإنجازات الراسخة؛ لأنه لا يتوقف في عطائه , ولا ينتظر مقابلاً لعمله . الإنسان الترابي هو النموذج الفريد للطيبة الصبورة , والانتقام الصعب.. ويقال: إن الترابي يتفاعل إيجاباً مع المائي فكلاهما ضروري للآخر .. وإذا اقترن اثنان يحملان طبيعة الماء والتراب فإنهما ينجحان . هذه التخريجات والمقاربات المتصلة بالطبائع لا تغني عن العقل والحكمة.. فالإنسان ليس مجبراً على أن يكون بصفته المطبوعة فيه؛ لأن الله منحه العقل والحكمة , وأعطاه إمكانية التعلم ومراجعة الذات . غير أن القدامى يصرون على أن الطبيعة الآدمية حالة جبرية .. فهاهو زهير بن أبى سلمى يقول : ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تُخفى عن الناس تُعلم لكن زهيراً وبالرغم من ذلك يعتقد أن الإنسان قادر على أن يتغير في مرحلة من مراحل عمره .. يقول : وإن سفاه الشيب لا حُلم بعده وإن الفتى بعد السفاهة يحلم ويقول المثل العربي : كل إناء بما فيه ينضح . وهنالك من يقولون باستحالة معرفة الذات، لأن الذات الإنسانية أشمل وأوسع من الأوصاف والقابليات المرئية.