كما هو شأن البشرية في مقاومة التغيير، فإن ما تواجهه التحولات الديمقراطية في المنطقة من تحديات لا يخرج عن حلبة الصراع بين القوى الحداثية والقوى التقليدية التي تجد في الغالب في هذه التحولات تهديداً مباشراً لوجودها ومصالحها، يقتضي منها مقاومته بكل السبل المتاحة أمامها. ففي جزء كبير من الإشكاليات والأزمات السياسية التي انزلقت إليها التجربة الديمقراطية في اليمن كان يترجم بوضوح هذا اللون من الصراع، غير أنه استطاع تغليف نفسه بمختلف المسميات التي جاءت بها الديمقراطية.. حيث إن القوى التقليدية المتشبثة بكل ظروف الماضي التي كانت تمنحها النفوذ، والجاه، والمال لا ترى بالديمقراطية إلا خصماً لدوداً يسعى لتجريدها من كل امتيازاتها من خلال انتزاع القرار من أيديها وإيلاء صناعته إلى مجالس محلية منتخبة، ومحافظين منتخبين، وأحزاب تمسك بأطراف اللعبة. كما أن الثقافة الليبرالية التي تعتمدها الديمقراطية لا تعني سوى انفتاح المجتمع على بعضه، وكسر عزلة أبنائه الثقافية، وطوق الجمود الذي كان يجعل الناس رهينة تلك القوى - سواء كانت قبلية أو دينية متشددة، أو غيرها ، وبالتالي فإن التنوير الذي يمتد حتى إلى شريحة النساء بات يسحب البساط من تحت أقدام تلك القوى ، خاصة في ظل تنامي المنظمات المدنية الحقوقية. وعليه، فإن ما حدث هو انقلاب مدروس على الديمقراطية تقوده القوى التقليدية، ولكن كان من الخبث بحيث إنه استخدم الديمقراطية نفسها للانقلاب على نفسها من خلال جرّ ممارساتها إلى حالة من الفوضى والتسفيه لتتحول إلى مصدر تهديد للأمن والسلم الاجتماعي، ومصدر خطر يحدق بكل القيم الوطنية السيادية كمستقبل الوحدة اليمنية، والاستقلال الوطني. وفي ظل القلق والمخاوف الناشئة عن الفوضى الديمقراطية التي فجرتها القوى التقليدية في المجتمع - سواء كانت منضوية تحت مسميات حزبية ، أو مدنية - عادت هذه القوى للإعلان عن نفسها كمنقذ للوطن، ومدافع عن وحدته وسيادته.. فأصبحت القبيلة والمشائخ ورجال الدين هم الذين يقودون حراك المجتمع، فيما توارت عن الأنظار القوى الحداثية من نخب سياسية تقدمية، ونخب أكاديمية علمية، وثقافية، وغيرها.. والمفارقة الأكبر هي نشوء تكوينات للمجتمع المدني يرأسها مشائخ قبائل، رغم أن الدعوة الليبرالية التي حملتها الديمقراطية قائمة بالأساس على مناهضة العصبيات بمختلف أنواعها. إن التأمل في واقع الساحة الشعبية اليمنية، وخرائط قواها السياسية والمدنية لابد أن يضع الجميع أمام حقيقة ما جرى، وبما يجلي الصورة عن هوية الأطراف التي دفعت بالأحداث إلى هذه الزاوية الحرجة التي يضطر فيها المجتمع إلى إعادة إنتاج نفوذ القوى التقليدية على حساب مساحة انتشار ونفوذ القوى الحداثية التطورية المتطلعة إلى التحرر من موروثات الماضي ومنح الفرد الإحساس النبيل بإنسانيته. ربما لو تصفحنا معظم الصحف المحلية لاكتشفنا الحقيقة، ولأدركنا حجم تراجع النخب الحداثية ومدى قوة حضور الطرف الآخر.. وهو ما يستدعي الوقوف عليه طويلاً والبحث الجاد عن مخرج يعيد رسم خرائط توازنات المجتمع.