إن من شروط تفسير المفردة القرآنية أن نحملها على المعنى العرفي الذي كان سائداً في وقت النزول، والمعاني التي تأتي بعد ذلك تعتبر معاني مستحدثة لا يحمل عليها القرآن، لكن أصحابها يحاولون أن يعطوا الألفاظ القرآنية المدلولات التي استحدثوها وهذا منهج غير صحيح، فكلمة التأويل مثلاً في العربية مشتقة من الأول بمعنى الرجوع، لكن في القرآن ورد التأويل في معنيين الأول هو التفسير والثاني هو خروج الخبر من حيز الخبر إلى حيز الواقع إن كان خبراً وتحقيقه في عالم الواقع، ففي قصة يوسف (عليه السلام) رأى رؤيا أن أبويه وإخوته خروا له سجداً قال تعالى: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً(يوسف:100) هنا تأويل الرؤيا خروجها من كونها خبراً حينما رآها إلى أن أصبحت حقيقة واقعة. ولذلك القرآن يتم تأويله يوم القيامة قال تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ(الأعراف:53) فيقع كل ما أخبر به القرآن من الأمور الغيبية. ثم جاء الأصوليون بعد ذلك وأضافوا معنى جديداً فقالوا : إن التأويل هو ترك المعنى الظاهر إلى المعنى غير الظاهر أو ترك المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بقرينة أو دليل، ويكون القرآن حمّال أوجه حينما تقطع الآية من سياقها لكن بوضعها في سياقها يتجه الكلام إلى معنى محدد. مثلاً قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات:96) قالوا : إن (ما) في (وما تعملون) يمكن أن تكون موصولة ويمكن أن تكون مصدرية فإذا قلنا موصولة خلقكم والذي تعملون، وإذا قلنا مصدرية خلقكم وعملكم، مذهب الجبر كله يقوم على هذه الآية أن الإنسان مجبر مخلوقة أفعاله وهو ليس له أي اختيار ولا إرادة، إذن هذه الآية احتملت هذين المعنيين، لكن بوضع الآية في سياقها وهو خطاب إبراهيم(عليه السلام) لقومه المشركين قال تعالى: ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(الصافات:95، 96) يعني أفتعبدون ما تنحتون من الحجارة والله خلقكم وخلق الحجارة التي تعملون فيها النحت؟! إذاً يتعين أن تكون موصولة، أما أي قول غير ذلك غير صحيح. ويصبح القرآن صالحاً لكل زمان ومكان ومواكباً للعصر وتطوراته بثرى معانيه، مثلاً قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرونَ (الواقعة:75 - 79) الفقهاء وقفوا عند آية (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) تحدثوا عن ضرورة الطهارة للمس المصحف لأننا عندما نضع الآية في سياقها (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فالحديث عن القرآن في مواقع النجوم قبل أن ينزل إلى الأرض وليس القرآن وهو في الأرض، (فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ) في اللوح المحفوظ ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة هم الذين يستطيعون الوصول لأن الشياطين لا يمكن أن تصل إليه في ذلك المكان، لذلك قال في نهاية المقطع هذا (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(الواقعة:80) فالمراد بالمطهرين الملائكة لأنهم مطهرون خلقة والناس لا يكونون مطهرين خلقة وإنما يكتسبون الطهارة بالفعل ولذلك قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة:222)، لكن المعنى في الملائكة واللوح المحفوظ من باب الإشارة في الآية وليس من باب دلالة العبارة فدلالة الإشارة إذا كان القرآن في مواقع النجوم لا يصل إليه إلا الملائكة المطهرون. إذاً ممكن نقول أيضاً: في الأرض يجب ألاّ يصل إلى القرآن إلا من تطهروا، من باب الإشارة وليس العبارة فدلالة الإشارة أقل من دلالة العبارة. ويضيف الراغب الأصفهاني أيضاً من باب الإشارة معنى جديداً، فآية (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) تعني لا يصل إلى حقيقة معانيه إلا من طهرت قلوبهم. وهكذا عندنا ثلاثة معاني محتملة، والثلاثة بينها ترابط وليس بينها تضاد، وهذا يدل على إمكانية تعدد المعاني لكن عن طريق الأسلوب وليس عن طريق المفردة نفسها فنغيّر معناها الأصلي.