في البيوت يحاصرنا الأسمنت من كل جانب عن طريق جدران المنازل، وحين نخرج إلى الطرقات نجد الأسمنت حيثما وجهنا وجوهنا، ومشكلة الأسمنت أنه لايبتسم ولاتنبت على صدره الأزهار والرياحين.. صارت الحياة من حولنا كلها "أسمنت" والطرقات تحت أقدامنا مسجاة بالأسمنت، ولو بمسمى مختلف ولون مختلف، لكن الطباع نفس الطباع.. استطاع الأسمنت أن يترك أثره على كل شيء في حياتنا فوجدنا نفوساً من الأسمنت وقلوباً من الأسمنت وفي الأخير وجدنا عقولاً من الأسمنت.. كيف بك وأنت تعيش في زمن الخرسانات المسلحة، حتى العواطف والأحاسيس من الأسمنت المسلح؟ كيف بك وأنت تحاور صاحب عقل أسمنتي مسلح بالانغلاق وتقديس الذات والإعجاب بالرأي إلى حد الغباء؟ كيف بك وأنت تسمع كلاماً يُصّر صاحبه على صدقه وحقيقته رغم الزيف والخلل؟ ألا يدلك هذا الأمر على حجم المصاب الذي لحق بالعقول؟. لاوجه للمقارنة بين صلابة المواقف وصلابة الأسمنت ولا للمقاربة بينهما؛ فالمسألة هنا تندرج ضمن التصلب الممقوت والتطرف المقيت.. أعتقد أن البيئة التي يتوسع فيها الأسمنت على حساب البيئة الطبيعية، التي تقتضي وجود مكونات البيئة المتزنة من أشجار وشجيرات وأزهار وعصافير وطيور للحفاظ على البنيان النفسي الذي أصابه التشوه في زمن غزو الأسمنت على حساب الأشجار والنباتات الخضراء والنفوس الخضراء والعقول المتفتحة المرنة، التي تقبل بالرأي والرأي الآخر، الذي لايتصلب أصحابه بما لديهم ويكفرون بما لدى الآخرين بسبب ثقافة الأسمنت في كل شيء.. مزايا الأسمنت الكثيرة التي يُستفاد منها في البناء والتنمية والعمران الشامل تصبح مساوىء وتنتج مصائب حين يدخل الأسمنت في تركيب العقول، وحين يدخل في تشكيل العواطف والمشاعر الإنسانية. مايحدث في الوقت الراهن من صراعات وحروب ومن ظلم بشتى أنواعه وصوره، ومن مشكلات اجتماعية وأزمات وطنية وعلاقات متوترة في نطاق المجتمع الواحد والمجتمعات المختلفة يرجع بالأساس لعلاقة العقول والقلوب بالأسمنت ولتأثرها به بشكل أو بآخر.. وحين تفشل الحوارات السياسية حول قضية ما سواء داخل البلد الواحد أو في العلاقات الدولية فإن الأمرَ يُعزى لطبيعة العقول الأسمنتية عند بعض تلك الأطراف، وهذه الصفة لن تكون إيجابية في أي حالٍ من الأحوال، وأرجو أن لايفتر البعض بصلابة الأسمنت فيرى فيها ميزة أو يظنها كذلك فيتمسك بمواقفه وآرائه ويبقى على علاقة جيدة بينها وبين عقله وفهمه ووعيه، ويستمر على ماهو عليه فتكون العواقب وخيمة على نفسه وعلى أهله ومن حوله جميعاً.. لكي ندرك كم هي عقول الأسمنت في مجتمعاتنا، وخصوصاً تلك المسلحة بالأفكار المتطرفة والقنابل الموقوتة والعبوات الناسفة وغيرها من الأسلحة، التي تتآلف مع هكذا عقول وأفكار؟ علينا أن نقارن المساحة التي يشغلها الأسمنت بالمساحة المزروعة بالنباتات والأزهار والأشجار والشجيرات خصوصاً في المدن، على اعتبار أن المدن هي مراكز النشاط السياسي والثقافي، وبالتالي تكون الصورة واضحة، والنتيجة ظاهرة للعيان ولاغرابة إذا اكتشفنا حجم الخلل، الذي أصاب العقول والنفوس في ظل خلل العلاقة بين الزراعة والبناء العمراني المسلح لصالح الأخير إلى درجة انعدام الأشجار والشجيرات في مساحات واسعة من المدن الرئيسية المنهكة بالعمارات المسلحة بالأسمنت والحديد وعوادم السيارات و(الموتورات) ودخان المدخنين الذي لايجد مايمتصه سوى أجسام البشر، وبالتالي تكون النتيجة عاهات صحية جسدية ونفسية وعقلية.. الأسمنت الذي يغطي على العقول سوف يدمر ما تبقى من مقومات الحياة على ظهر الأرض، وكلما استشرت ثقافة التصلب والتطرف كان الخطر أشد وأعظم، وكلما كانت مجالس التنظير السياسي تدار بعقليات من ذلك النوع فإن المشهد سيكون مظلماً وسيشهد الواقع حكايات لاتسر أحداً، وسوف نجد أناساً من حولنا لايرون إلا المساوىء ولايدركون إلاّ الشرور ولايؤمنون إلاّ بالشر والقوة والعنف، وسنلاقي عقولاً لاتفهم إلا التطرف، ولن يقتصر الأمر على التطرف الديني بل على كل شيء والتطرف كله سيء ويهدد بنيان المجتمع وحياة الناس.. لذلك نحن بحاجة لإعادة التوازن بين الألوان في حياتنا، بحاجة لأن نربي الأجيال في بيئة متوازنة حتى في أبسط الأمور التي لانلتفت إليها غالباً.. هناك فرق بين عقل من ينمو في بيئة زراعية وعقل من ينمو في بيئة قاسية وجافة ومتصحرة، وفي كل الأحوال فإن طغيان الأسمنت على لون النباتات الحقيقية سيترك أثراً سلبياً وقد حدث ذلك، ولكن بالإمكان تدارك الموقف، ولايجب أن يُفهم هذا الموضوع في سياقه الظاهري فقط، فثمة أشياء يمكن أن تأخذ طابع العلاقة بين الأسمنت والأشجار والنباتات ولها نفس الأثر في حياتنا.